يكثر الحديث في الفترة الأخيرة عن المال السياسي والخطر الذي قد يشكّله على المشهد السياسي في تونس، بدءاً من توجيه إرادة الناخبين، وصولاً إلى عمليات شراء الأصوات والمتاجرة بها. ولكن على الرغم من تنديد المجتمع المدني وجمعيات عدة باختراق المال السياسي الانتخابات التشريعية (26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي)، محذّرين من إمكانية تأثيره أيضاً على الانتخابات الرئاسية المقبلة، في 23 نوفمبر/تشرين الثاني، إلا أن إثبات هذه التجاوزات يبدو معقداً في الوقت الراهن إن لم يكن شبه مستحيل.
ويشير رئيس منظمة "أنا يقظ"، أشرف العوّادي، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إلى أن "القانون الانتخابي لم يعرّف شراء الأصوات. ونحن أمام جريمة غير معرّفة في ظلّ غياب الاختصاص". واعتبر أنّ "الأطراف المعنية بمراقبة التجاوزات كالجمعيات والمنظمات، ليس لها من الخبرة ما يخوّلها مراقبة المال الفاسد". ولفت إلى أنه "على الرغم من أن دائرة المحاسبات، تُعتبر هيئة عليا للرقابة، وتسهر على حسن التصرّف بمالية الدولة، غير أنها لا تملك آليات مراقبة، تماماً كالمحكمة الإدارية".
وكشف أن "المنظمة راقبت الانتخابات التشريعية، لكنها فشلت في إثبات الحالات التي ضُبط فيها المال السياسي". واعتبر أنّ "المنظومة القانونية في تونس تشجّع بدورها على الفساد، على الرغم من ترسانة القوانين الموجودة، كون الأشخاص عادة، يرفضون تقديم شهادات في هذا الصدد. فالقانون التونسي لا يحمي المبلّغين عن الفساد، مما قد يخلق نوعاً من الإحجام عن التصدّي للفساد".
ولفت إلى أنّ "المراقبين التابعين للمنظمة رصدوا شاحنة تابعة لحزب سياسي، كانت تتجول في محافظة القيروان بالوسط التونسي وفي محافظات بوحجلة والوسلاتية، ومع أنها كانت توزّع المال على الناخبين، إلا أنّ الشكوى التي رفعتها المنظمة، في أحد مراكز الشرطة، أودعت الأدراج ولم يتمّ التحقيق فيها، بالرغم من تصوير الشاحنة".
وقال إن "هذا الأمر بعث برسائل واضحة مفادها، أنه يُمكن أن تحصل أيضاً تجاوزات في الانتخابات الرئاسية". وعبّر العوّادي عن "أمله الكبير في أن تساهم التقارير التي رصدتها المنظمة، والتي ستقدمها قريباً إلى دائرة المحاسبات، في تغيير كل شيء".
وأكد أن "صدور هذه التقارير قد يسقط بعض القوائم مستقبلاً، فهناك بصيص أمل في محاسبة كلّ من استعمل المال السياسي بطريقة غير قانونية". ورأى أنّ "الضامن الوحيد للحدّ من المال الفاسد في الانتخابات الرئاسية هو المواطن".
من جانبه يعتبر رئيس "الجمعية التونسية لمكافحة الفساد"، إبراهيم الميساوي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ "الحديث عن المال السياسي في الانتخابات التشريعية، يدفعنا إلى القول إنّ القانون في مكان والواقع في مكانٍ آخر، كما أنّ ممارسات الأحزاب السياسية تتناقض مع أقوالها".
وأفاد الميساوي بأن "هناك صعوبة في مراقبة المال السياسي، التي لا تكمن في المراقبة، ولكن في إثبات حالات شراء الأصوات وتوزيع المال على الناخبين". وشدّد على أنّ "الجهات التي تسعى إلى المراقبة هي جمعيات ومنظمات، تبقى إمكاناتها محدودة، ممّا يجعلها غير قادرة على الوصول إلى أي نتيجة". وأضاف أنّ "الدولة وما توفّره من إمكانات، كدائرة المحاسبات مثلاً، لم تتمكن حتى الآن من حصر المال الموزّع في الانتخابات التشريعية لعام 2011". واعتبر أنه "لن يتم حصر حجم الأموال للعام الحالي، لصعوبة ملاحقة جهات صرفها". وكشف أن "تقديرات بعض الخبراء تشير إلى وجود ما لا يقلّ عن 33 مليون دولار من المال الفاسد في 2014".
وأقرّ بأن "الحديث عن المال السياسي يعمّ معظم الأوساط، وسط خوف من الأحزاب الكبيرة، كنداء تونس وحركة النهضة. فالمتأمل باجتماعات هذه الأحزاب، يلاحظ المبالغ الخيالية التي تنفقها". وأورد دلائل على كلامه "هناك الدعم اللوجستي والتنقل بين المحافظات التونسية، والإقامة داخل الفنادق، إلى جانب الحرص على وجود مشجعين من الشباب، مدفوعي الأجر. كلها مؤشرات تدفع إلى التساؤل عن مصدر الأموال الضخمة التي تنفقها الأحزاب".
وأشار إلى أن "الأحزاب الصغيرة فقط، هي تحدّثت عن المال السياسي في الانتخابات التشريعية، بينما تتجنّب الأحزاب الكبيرة الخوض فيه". واعتبرت رئيسة مرصد "شاهد" لمراقبة الانتخابات، ليلى بحرية، أنّ "هناك علاقة وطيدة بين المال والسياسة، وهذه العلاقة موجودة حتى في أعتى الديمقراطيات". ودعت بحرية إلى "الحدّ من المال المشبوه والفاسد، كي لا يؤثر على الانتخابات، خصوصاً أننا على أبواب انتخابات رئاسية".
وأكدت وجود "مخاوف من قبل بعض الأحزاب، ومن مكوّنات المجتمع المدني من سيطرة المال السياسي، كون مراقبة الانفاق المالي معقّدة جدّاً، إن لم تكن شبه مستحيلة". وأشارت إلى أنّ "المال السياسي موجود، ولكن إثباته غير ممكن. فـ60 في المائة من الاقتصاد التونسي، يقوم على التعاملات النقدية، وهو ما يُعقّد أيضاً مسألة المراقبة".
وعبّرت بحرية عن أملها في أن يتم سنّ تشريعات في المجلس النيابي المقبل، تنصّ على أن تتم كلّ المعاملات التي تتجاوز سقفاً معيناً بالتحويلات المصرفية، خصوصاً، أن الهياكل المعنية بالمراقبة عاجزة في الوقت الراهن عن حصر المال "العيني".
وكشفت أن "المحكمة الإدارية في تونس أقرّت بدورها بوجود طعون، غير أنه لم تتوافر الحجج الفعلية". وأشارت إلى أنّ "شكاوى عدة وصلت إلى مرصد شاهد عن توزيع المال في المقاهي، غير أنه لا يُمكن توثيق ذلك".
وأضافت أنه "لوحظ في يوم الانتخابات التشريعية وجود مال سياسي في محيط مراكز الاقتراع، ولكن على الرغم من الاتصال بهيئة الانتخابات من أجل إرسال أحد وتسجيل الخروقات، إلا أنهم لم يتجاوبوا". وأعربت عن اعتقادها بأن "دورهم كمجتمع مدني لا يُمكن أن يتعدّى الملاحظات".
وطالبت بحرية "هيئة الانتخابات" بمزيد من اليقظة، وكشفت أنه من المتوقع أن "يتم عقد اجتماع في الأيام القليلة المقبلة بين مكونات المجتمع المدني وهيئة الانتخابات، من أجل المزيد من التنسيق في الانتخابات الرئاسية".
واعتبر رئيس منظمة "عتيد" معز بوراوي، أنّ "غياب الإثبات هو المبرر الوحيد، تقريباً، الذي قدّمته هيئة الانتخابات، إذ كلما تم الحديث عن تجاوزات، طالبتهم الهيئة بتقديم الإثباتات". وقال إنّ "الإشكال الأساسي الذي اعترضهم كمنظمة، أثناء مراقبتهم للانتخابات التشريعية، يتمثل في وضع العراقيل أمام عناصرهم، كلّما أرادوا توثيق وتصوير التجاوزات، حتى أنه يتمّ تهشيم آلات التصوير التابعة لهم أو الاعتداء عليهم جسدياً".
ولفت إلى أن "عناصرهم كانوا خائفين، مما أثرّ على نوعية المشاهد التي تم تصويرها، والتي لم تكن في مجملها جيدة، إذ تمّ التقاط مشاهد للطرقات من بعيد ولم تكن المحادثات واضحة". وأكدّ أنّه "في ظلّ التقارير والشهادات التي قدّموها كان على هيئة الإنتخابات أن تتحرّك، وتتخذ الإجراءات في هذا الصدد ولو عبر الإستماع إلى الشهود وهو ما لم يحصل".
وتساءل بوراوي عن تقارير المراقبين الـ1200 التابعين لهيئة الانتخابات، وعن عدم الإعلان عن فحواها. وكشف أنّ "منظمة عتيد ستقدم ملفاً كبيراً إلى دائرة المحاسبات، على أمل ان يساعدها في الكشف عن التجاوزات". وتابع "المال السياسي في الحملة الرئاسية سيكون أقل من الإنتخابات التشريعية، باعتبار أنّ سقف المنحة أرفع وطبيعة الحملات الخاصة بالمرشحين الرئاسيين وبالتعريف بالمرشحين مختلف جداً".
من جانبه، قال رئيس "المركز العالمي لمكافحة الفساد بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط"، كمال العيّادي، إنّ "رائحة المال السياسي كانت حاضرة بقوة في الانتخابات التشريعية، وأغلب الأحزاب فضّلت تقديم المرشّحين الميسورين في قوائمها، من أجل استخدام المال في الانتخابات، لتدخل هذه الأحزاب الانتخابات بقوة المال وليس بقوة البرامج".
وأكدّ أن "القانون الانتخابي، وعلى الرغم من إيجابياته في منع المساعدات الأجنبية والتمويلات مجهولة المصدر، فإنه يبقى ناقصاً". وكشف أنّ "الانتخابات التشريعية عرفت ظاهرة الاسترزاق من الانتخابات والسمسرة والوساطة. وفتحت هذه الممارسات المجال لوجود سوق موازية للانتخابات، خصوصاً في المناطق الريفية ذات الكثافة السكانية المرتفعة. فهناك أصوات بيعت بالجملة في بعض المحافظات التونسية".
واعتبرت القاضية حسناء بن سليمان، أنه "لا يوجد تعريف دقيق للمال السياسي، ومع أن هناك أخباراً عن التجاوزات وعن المال السياسي، ولكنه بقي بمثابة الشبح، في ظلّ عدم تقديم أية إثباتات في الوقت الراهن، إلى المحكمة الإدارية". ويظهر ذلك أن الطريق لا يزال طويلاً، من أجل الكشف عن المال السياسي، ويحتاج إلى معركة سياسية وتشريعية، تُخرجه من باب الفرضية وتجعل منه جريمة يمكن توثيقها".