رأس السنة الأمازيغيّة في الجزائر... طقوس تعيد الإنسان إلى الأرض

12 يناير 2020
طقوس احتفال مميزة (العربي الجديد)
+ الخط -

عادةً ما يبدو لنا الأمازيغ، الذين يمتد نطاقهم الجغرافيّ من واحة سيوة في مصر إلى جزر الكناري في إسبانيا، مجرّد أقليات في البلدان الثمانية التّي ينتمون إليها: مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب ومالي والنيجر وإسبانيا. وهي نظرة ساهمت أنظمة بعض هذه الدول في تكريسها حتّى لا تضطرّ إلى الاعتراف بالحقوق السياسية والثقافية للقومية الأمازيغية.
لكنّ عودة بسيطة إلى تاريخ الأمازيغ تجعلنا ندرك أنّهم من السبّاقين في كثير من الإنجازات الحضارية التي عرفتها الإنسانية، منها أنّهم أوّل من عرف فنّ الرواية، من خلال لوكيوس أبوليوس (125 ـ 180 م)، الذي كتب رواية "الحمار الذهبي"، وأوّل من نظّر لعلم اللاهوت من خلال سانت أوغيستين (354 ـ 430 م)، وثاني من وضع القواعد للقانون، بعد حمورابي البابلي، من خلال الملك يوبا الثاني (52 ق. م ـ 23 ق. م).
أمّا في مجال التقويم الفلكيّ، فالأمازيغ يستعدّون يوم 12 يناير/ كانون الثاني للاحتفال بالسنة الجديدة 2970، أي أنّهم سبقوا التّقويم الميلاديّ بـ950 عاماً. ويربط كثير من المؤرّخين رأس السنة الأمازيغية التي تعرف لدى الأمازيغ بـ"يناير" أو "ينّار"، بانتصار الملك الأمازيغي شيشناق على الملك المصري بسوسنس الثاني، ليؤسس بذلك الأسرة الثانية والعشرين من حكم مصر عام 950 قبل الميلاد.
يقول الكاتب والباحث يوسف بوذن لـ"العربي الجديد"، إنّ التقويم الأمازيغي تقويم زراعي بامتياز "فهو يبدأ مع بداية موسم الحرث في شمال أفريقيا. وإذا قرأناه في إطار علاقة الإنسان الأمازيغي بالشجرة والأرض، إذ لا يفرّق بينهما وبين المرأة التي هو مسؤول عنها، حتّى أنّه مستعدّ لأن يموت من أجل إحداها، الأرض والشجرة والمرأة، فسندرك أنّ احتفاله برأس السّنة الأمازيغيّة هو تجديد منه للارتباط بالأرض".
يضيف يوسف بوذن أنّ الأمازيغ الجزائريين عمدوا قبل ثلاثة قرون إلى إصدار قانون يحرم النساء من الإرث حتّى لا تؤول الأرض التّي يرثنها إلى أزواجهن من العثمانيين الذين وجدوا صعوبة في السيطرة على الأرض، بعد دخولهم إلى الجزائر مطلع القرن السادس عشر، فلجأوا إلى "حيلة الزواج من الأمازيغيات".


في السياق نفسه، يقول الكاتب والباحث في الثقافة الأمازيغية إبراهيم تازاغارات إنّ تأملاً بسيطاً في الطقوس الشعبية المرافقة للاحتفال برأس السنة الأمازيغية يكشف أنّها جميعاً مرتبطة بعلاقة الإنسان بالأرض وحرصه على تقديسها وخدمتها والدفاع عنها والانتماء إليها.
يشرح لـ"العربي الجديد" فكرته: "في اليوم نفسه يمارس السكّان الطقوس نفسها، حتّى وإن كانت تختلف من منطقة إلى أخرى في الأشكال، ليؤكّدوا الانتماء إلى المخيال ذاته. وهذا ما يُسمّى الوحدة الثقافيّة والحضاريّة لسكان بقعة معيّنة".
يشير تازاغارات إلى جملة النضالات السياسية والفكرية التي خاضتها نخب كثيرة من الأمازيغ في الجزائر والمغرب من أجل افتكاك اعتراف الحكومات بالثقافة الأمازيغية من زاوية كونها مكوّناً رئيساً للهويّة الوطنية لتلك الدول. يقول: "لقد سجن واستشهد عدد كبير من المناضلين في الجزائر حتى جرى الاعتراف نهائياً بالثقافة واللغة الأمازيغيتين، في التعديل الدستوري عام 2016".
في سيارة أجرة تنتقل من الجزائر العاصمة إلى مدينة برج بوعريريج، على مسافة 200 كيلومتر من الطريق السريع، يتساءل شاب مهاجر من دولة مالي عن سبب انتشار باعة الديوك البلدية على جنبات الطرق، لتأتيه الإجابة إنّ الأمر يتعلّق بطقس مرتبط برأس السنة الأمازيغية، حيث يقوم كبير العائلة - عادةً ما يُشترط أن يكون مواظبًا على الصلاة - بذبح ديك بلدي، ويتعمّد أن يصل دمه إلى أرجاء البيت طرداً للأرواح الشريرة.
ومع التوقف في إحدى المحطات، يستقبلنا العمّ عبد الرّحمن (58 عاماً)، بعبارة "أسقاس أمّغاز"، التي تعني باللغة الأمازيغية "سنة سعيدة"، ليذكر بعدها أسعار الديوك المربوطة أمامه بحسب أحجامها.
كانت أسعاراً مرتفعة بالمقارنة مع بقية الأيام الأخرى من العام، فقال العم عبد الرحمن: "أين يمكنك أن تجد ديكاً بلديّاً هذه الأيّام؟ إنّه مطلوب لرأس السنة. وهو أفضل بكثير من الدجاج الجاهز ذوقاً وبركةً". ومع سؤاله عن طقس آخر، بالإضافة إلى ذبح الديك البلدي، يقول إنّ "الشرشم" مطلوب أيضاً، وهو غلي الحبوب، مثل القمح والحمّص والعدس، في الماء المملح وتوزيعه على الأطفال والجيران، حتى يكون محصول الموسم الزراعي وفيراً".




من جهته، يقول الكاتب والناشط أنور رحماني إنّه من تقاليد الاحتفال بالسنة الأمازيغية في منطقة شرشال، التي تبعد مسافة ساعة عن الجزائر العاصمة غرباً، وضع أصغر طفل في العائلة داخل قصعة ورمي الحلوى والجوز واللوز والبندق والشوكولاتة على رأسه، ثم وضعها في أكياس وتوزيعها على من يحضر الطقس.
هذا التقليد، يقول رحماني، انتقل اليوم عبر "فيسبوك" ووسائل الإعلام إلى معظم المناطق الجزائرية، فأصبح طقساً رئيسياً ضمن طقوس الاحتفال بـ"يناير" الذي يدوم ثلاث ليالٍ وليس ليلة واحدة فقط. ولكلّ ليلة طبقها، وطبق الليلة الأولى هو "حشيش كويرات"، وهو كريات من العجين تُحضّر بجميع أعشاب الغابة.
ويبدي لـ"العربي الجديد"، أسفه على تراجع بعض العادات المتعلّقة برأس السنة الأمازيغية. يذكر منها رمي فتات الخبز في الزوايا الخارجية للبيت لإطعام الحشرات، خصوصاً النمل، وكذلك العصافير: "هو نوع من الصدقة وجلب الحظّ الحسن والأرواح الطيبة".
تنتشر ظاهرة "الوزيعة"، وتسمّى بالأمازيغيّة "ثمشرط"، في القرى والبلدات الأمازيغية الشمالية، وتقوم على جمع المال من السكان، بحسب قدرة كلّ واحد منهم، ثمّ شراء رؤوس من الثيران وذبحها وسلخها وتوزيعها في الساحة العامة، مرفقة بزغاريد النسوة وأدعية الرجال وأهازيج الأطفال.
يقول الناشط إلياس لحري لـ"العربي الجديد"، إنّها عادة مرتبطة بالمناسبات الروحية مثل المولد النبوي، والثقافية مثل رأس السنة الأمازيغية: "يحضرها ويساهم فيها جميع أفراد البلدة بمن فيهم المهاجرون، فيتحوّل الجميع إلى عائلة واحدة. ويشترك الفقير والغني في أكل اللحم". يتابع: "في العادة، يكون السكان قد أتمّوا عملية جني الزيتون الذي يشكّل أبرز محصول زراعي في المنطقة، فتكون الوزيعة المصاحبة لرأس السنة الأمازيغية محطة للاحتفال بخيرات الأرض وتوزيع الزكاة على الفقراء والمحتاجين".