ذكريات مغترب فلسطيني ليلة رأس السنة

31 ديسمبر 2015
الذكريات، تتمشّى في رأسي ريثما تجد مستقرّاً لها (Getty)
+ الخط -
الذكريات، تتمشّى في رأسي ريثما تجد مستقرّاً لها. مذ خرجت من بيتي صباح اليوم، وأنا أتجوّل في شوارع المدينة. بحثت عن وجه طفل ضاحك، عن بقايا حب على أحد المقاعد، وعن مكان آمن ومريح كي أوقفَ الصّداع.


أصابتني البارحة نزلة شوق إلى الماضي. رأيت صبيّاً يشبهني، يخرج صباحاً وفي جيبه خمسة شواقل، "شيقلان فلافل، وثلاثة حمّص"، العبارة ذاتها التي أشدو بها لصاحب المطعم، مذ أصبحت مؤهلاً للذهاب وحيداً كي أشتري الفطور. ذات مرة، أوقفني ولد من أولاد قريتنا السّيئين، أخذ مني النقود، ثم أوقعني على الأرض وركلني بقدمه، عدت إلى البيت مهزوماً، حزيناً، دفنت رأسي في حضن أبي، وبكيت.

كان أبي عصاميّاً حتى في موته، لم يشكُ أو يزعج أحداً. توضّأ، صلّى ركعتين، وضع رأسه على الوسادة، وانسحبَ بهدوء. خرجت جنازة كبيرة من مسجد القرية القديم، حمله الأهالي في تابوت أخضر وساروا به نحو المقبرة، أراقت أمي عليه الدموع حتى جفّت عيونها. يبدو أنها لم تقدر على العيش بعده، لحقت به بعد شهر واحد، ماتت وتركتني وحيداً. كانت لا تفارقه، تخدمه بعيونها، تحضّر له الفطور بقلبها الكبير قبل يديها، تسهر على راحته إذ يمرض، تحزن لحزنه، وتفرح لفرحه.

أرى رجالاً يعودون من المعركة، حاملين بنادق الشهداء كي يمنحوها لأبنائهم، تستقبلهم المرأة التي كانت قبل دقائق زوجة هنيئة، والتي أصبحت الآن أرملة. "طلّت البارودة، والسّبع ما طَلْ" تغني زوجة الشهيد، تزغرد، تعطي البندقيّة لابنها، وكأنها تضع بين يديه كنزاً، تقول له: "خذ، هذا من أبوك، امسكها منيح، رح يجي يوم وتستخدمها"، تمتزج الدموع بالبارود، ويشتبك الحلم بالواقع.

جدي الذي استشهد في إحدى معاركه ضد الإنجليز بالقرب من مدينة جنين، ظلّت جدتي تسبّح باسمه حتى ماتت. كانت أمي تخبرني بأحاديثها وحكاياتها، كأنه فرض عائلي ومهمّة وطنيّة، قالت لي إنه كان يحمل لجدتي برتقالة من حيفا، تشم رائحتها عن بعد ميل، لا أدري إن كانت جدتي تبالغ أم أنه الحُبْ. صارعَ ضبعاً ذات مرة فقتله، ثم حمله على كتفيه حتى وصل القرية، أحاط به الشباب وحسدوه على قوته رغم عمره. ذهب مع الثوار وعاش في الجبال مع الوحوش، لم تبقَ مدينة أو قرية في شمال الضفة الغربية لم تسمع به.

جدّتي لم تكن تتذكّره فقط، بل كانت تغنيه وتنظم به القصائد، هذا أول ما خطر على بالي. قالت لي أمي إنه حين وصلها خبر استشهاده، تغيّر لونها ووجم وجهها لكنها لم تبكه، وإنما ذهبت إلى غرفتها بعد أن تعثّرت وهي في طريقها أكثر من مرّة، أغلقت خلفها الباب، ولم تخرج من الغرفة إلا بعد سنة، وحين خرجت لم تتحدّث إلا عنه، وكأنها كانت تتنفسه وتعيش فقط على ذكراه.

غابَ كلٌّ من جدي وجدتي وأبي وأمي، وبقيت وحيداً أذرع العالم كمجنون. "بدّي أروّح" صرخ داخلي، بينما قلبي يذوب في كل يوم مثل ندفة ثلج. إلهي، متى أعود إلى ذكرياتي دون حواجز وجنود؟ إلى وجه أهلي وأجدادي دون غرباء. إلى ابنة الجيران، حبّي الأول، لعبي، دفاتري القديمة، ملامح العجائز في الطرقات، ابتسامات الباعة المتجوّلين، وإلى كل المجانين والعشّاق في قريتنا.

(فلسطين)
المساهمون