لم تحتمل السلطة كلمات الشاعر المصري نجيب سرور (1932 – 1978) الجارحة القاسية فوضعته في مصحة الأمراض العقلية حتى رحل وحيداً بلا عائلة أو قريب أو صديق، حتى إن جرائد النظام ضنّت عليه بتعزية تليق بصاحب "آلو يا مصر"، ونشرت خبراً من بضع كلمات في أسفل صفحاتها.
تواجه الكاتب والشاعر منذ صغره مع ظلمٍ لم يطقه، حين شاهد كيف يتعرّض والداه للمهانة والذل على يد عمدة قريته إخطاب، أحد كبار الإقطاعيين في منطقته، ومنذ تلك اللحظة آمن سرور بثورة تعيد الحق لأصحابه وتحقق العدالة لجموع المهمّشين الذين انتمى إليهم، فلمّا أتت بدا ظلمها أكبر حين أرسلت معارضيها وراء الشمس.
الثورة ذاتها التي أتاحت له فرصة التعليم في ريف لم يعرف أبناؤه الحرْف إلا إذا هاجروا إلى المدينة، فلما تفوّق على أقرانه ونال بعثة دراسية حكومية إلى موسكو، لاحقته بسبب أفكاره اليسارية التي اعتنقها هناك، وجرّدته من الجنسية وأوقفت بعثته حتى أكمل تعليمه وظلّ منفياً إلى أن نشر الناقد رجاء النقاش مقالاً يطالب فيه بالسماح صاحب "الحكم قبل المداولة" بالعودة إلى وطن.
عاش سرور غاضباً من واقعه وناسه، وابتعد عنه الجميع بسبب قصائده التي شتم بها كلّ الانتهازيين وسرّاق العيش، وبسببها فُصل من وظيفته مدرّساً في "المعهد العالي للفنون المسرحية" بعد أقل من عامين على تعيينه، ما اضطره إلى تأليف مسرحياته وإخراجها خارج دعم السلطة وتمويلها، حيث قدّم أهم أعماله التي لم تُقرأ وتأخذ حقها في الانتشار، وظلّت تُختزل تجربته ببضع قصائد غاضبة.
اتكأ في مسرحيته الأولى "ياسين وبهية" على الحكاية الشعبية الشهيرة حول ياسين الذي تعدّدت رواياتها حوله بين كونه بطلاً انتصر للفقراء أو قاطع طريق أفسد في الأرض، ليحمّله سرور خطاباً ثورياً يمثّل كل فلاحي مصر الذين قاوموا الإقطاع والطغيان وأنه لم يقتل لخروجه على القانون بل لتمرّده على سلطة صادرت حقوقه وحرياته، حيث يتساءل الراوي: "لمّا كان آدم وحوا، م السما نازلين يا دوبك بالعيال/ يا ترى كان في ساعتها بيه وباشا؟".
سيكتب صاحب "ملك الشحاتين" عملين آخرين ليكمل روايته لتاريخ لم توثّقه سوى المرويات الشعبية، في "آه ياليل يا قمر" و"قولوا لعين الشمس"؛ الأول يروي قصة بهية التي تنزوج من صديق زوجها الراحل البطل ياسين، وتذهب معه إلى بورسعيد حيث يُستشهد هناك أثناء إحدى عمليات المقاومة ضد الإنكليز، والثاني يتحدّث عن فساد الأبناء والأحفاد الذين تسببّوا في هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وربما يمكن القول إن هذه الثلاثية جرى استنساخها مرات ومرات بشخصياتها وتسلسل أحداثها في أعمال مسرحية وتلفزيونية وسينمائية، وكأن رواية مصر الحديثة غير الرسمية كتبها شخص اسمه نجيب سرور لكنها حملت توقيع عشرات غيره.
بعد ذلك كتب عدّة مجموعات شعرية ودراسات نقدية ومسرحيات كان آخر ما نُشر منها "منين أجيب ناس" عام 1975، والتي رأى فيها أن نضالات مصر للتحرّر من الاستغلال والاستبداد يضيعها السادات الذي يهروب وراء السلام والانفتاح الاقتصادي، وكانت من أولى التعبيرات الفنية التي استشرفت مرحلة لم تبدأ بعد.
رحل نجيب سرور وهو لا يجد طعاماً ومأوى، مصرّاً على مقولته "أنا لست أُحسب بين فرسان الزمان/ إن عد فرسان الزمان/ لكن قلبي كان دوماً قلب فارس/ كره المنافق والجبان/ مقدار ما عشق الحقيقة".