ذكرى انفصال جنوب السودان: السلام المفقود يحيي الكونفدرالية

12 يوليو 2015
لا يزال الجنوبيون يبحثون عن بعض الاستقرار(سمير بول/الأناضول)
+ الخط -
حلّت الذكرى الرابعة لانفصال جنوب السودان الذي كوّن دولته المستقلة في التاسع من يوليو/ تموز 2011، من دون أن تكون الدولة الوليدة قد نجحت في حل مشاكلها السياسية والأمنية والإنسانية والاقتصادية العالقة والتي ازدادت تعقيداً، لتخيب آمال وطموحات الجنوبيين في الاستقرار والسلام بعد حرب مع شمال السودان متسلسلة لنصف قرن. وفي حين شارك في الاحتفالات التي شهدتها العاصمة جوبا، كل من الرئيس الأوغندي يوري موسفيني والرئيس الكونغولي جوزيف كابيلا فضلاً عن نائب رئيس دولة جنوب أفريقيا ووزراء خارجية السودان ومصر وكينيا وإثيوبيا، شكل غياب أبرز قادة المجتمع الدولي عن الاحتفالات التي أقامتها جوبا في ذكرى الانفصال، وبيانات الإدانة القوية لقادة الحركة الشعبية، بما في ذلك بيان مجلس الأمن الدولي، رسالة واضحة عن مدى الاستياء الدولي من مآلات الأوضاع في جنوب السودان.
الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، دعا الجنوبيين إلى وقف الحرب فوراً والدخول في مباحثات سلام. وطالب رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت وزعيم المتمردين رياك مشار بالتحلي بروح المسؤولية وعدم اللجوء إلى الحلول العسكرية. كما حملت واشنطن ميارديت ومشار والمقربين منهما مسؤولية الحرب في الجنوب، إذ أعلنت سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي للرئيس الأميركي باراك أوباما، أنّ الولايات المتحدة والمجتمع الدولي سيعاقبان المصريين على دفع الجنوب نحو الهاوية.
من جهته، طالب رئيس عمليات حفظ السلام في الأمم المتحدة، إيرفيه لادسو، مجلس الأمن قبل أيام بفرض حظر على الأسلحة إلى دولة جنوب السودان وإدراج مزيد من القادة المتنافسين هناك في القائمة السوداء. وهو الطلب الذي ظل يطرح في مجلس الأمن من دون أن يجد استجابة، إذ تعترض عليه كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين على الرغم من الأزمات التي تواجهها جنوب السودان. 

فبعد أقل من عامين من الاستقلال عن السودان الموحد، غرق الجنوب في حرب أهلية اندلعت وسط قادة الحركة الشعبية الحاكمة وقادت لمقتل أكثر من عشرة آلاف شخص فضلاً عن تشريد ما يتجاوز 2.3 مليون نسمة، وفق أحدث تقارير منظمات الأمم المتحدة.

اقرأ أيضاً جنوب السودان: سنة رابعة استقلال بلون الدم

وكانت الحرب بين قادة الحركة قد اندلعت منذ ديسمبر/كانون الأول 2013 على خلفية اتهام الرئيس الجنوبي سلفاكير ميارديت لنائبه رياك مشار وقادة الحركة الشعبية التاريخيين، بينهم الأمين العام للحركة باقان أموم وعدد من وزراء الحكومة، بتنفيذ انقلاب ضده.
وفي محاولة لتدارك الموقف وحل أزمة الحرب داخل الحركة، لجأ رئيس جنوب السودان أخيراً إلى سلسلة خطوات في إطار توحيد الحركة الشعبية بإعادة رياك مشار إلى منصبه كنائب لرئيس الحركة فضلاً عن إعادة باقان أموم، على اعتبار أن شرارة الحرب تفجرت من هناك.
ولا يستبعد مراقبون أن تنجح الخطوة في إعادة اللحمة الجنوبية باعتبار أن قادة الحركة التاريخيين الذين أعيدوا أخيراً للحزب لديهم دراية بالمفاوضات، ولا سيما أنهم من قادوا عمليات التفاوض مع الحكومة السودانية وتوصلوا معها لاتفاقية السلام الشامل التي تم بنهايتها الانفصال. كما أن لدى هؤلاء القادة القدرة على الخروج من الأزمات التي كادت أن تعصف بالحركة، والتي كان أبرزها مقتل زعيم الحركة جون قرنق في 30 يوليو/تموز 2005، بعد أشهر من توقيع اتفاق السلام الذي وضع حداً للحرب الأهلية وبعد 21 يوماً فقط من أدائه القسم نائباً أول للرئيس السوداني عمر البشير.
لكن التصريحات الأخيرة لمشار، الذي بات يحمل صفة "زعيم المتمردين"، لا تصب في هذا الاتجاه بعدما لوّح يوم الخميس الماضي، بالتزامن مع الاحتفالات بذكرى الانفصال، باستمرار الحرب. كما عاد للمطالبة بتنحي ميارديت عن السلطة. وشدد مشار على أنّ السلام لن يتحقق بوجود ميارديت بقوله "لا نشعر بأنّ لدينا شريك سلام مع سلفاكير".
ولدى مشار طموح منذ أيام زعيم الحركة الراحل جون قرنق بحكم الجنوب، إذ يؤمن الرجل بأسطورة لقبيلته حملت مواصفاته كرجل سيحكم الجنوب وينقذه من حمامات الدم، وهو ما يعرف "بمون دينق".
لكن مشار ليس الطرف الوحيد في الأزمة الحالية، وهو ما تشير إليه بوضوح الاتهامات المتبادلة بين القادة الجنوبيين بشأن إفشال حلم الاستقلال وقيادة الدولة نحو الحرب. فبينما حمّل رئيس جنوب السودان شركاءه في الحركة المسؤولية، اتهمت زوجة ربيك قرنق، زوجة الزعيم السابق للحركة الشعبية، السياسيين الجنوبيين بمن فيهم هي نفسها، بخذلان الشعب الجنوبي وعدم الإيفاء بالوعود التي أطلقوها للشعب.
وكان أكثر من 98 في المائة من الجنوبيين قد صوتوا لصالح الانفصال، في ظل قناعة راسخة كانت لديهم بأن الاستقلال عن الشمال سيقود نحو حياة أكثر استقراراً. وهو ما دفع أيضاً آلاف الجنوبيين الذين كانوا يتواجدون في الشمال وحتى في خارج البلاد، إلى العودة لجوبا بحماسة قبل أن تبدد التطورات آمالهم بعد خلافات قادة الحركة وتداعيات الاقتتال، وتطرح من جديد علامات استفهام حول ما إذا كان خيار الانفصال صائباً.
وفي السياق، تقول ميري لـ"العربي الجديد" "تمر الذكرى الرابعة وأنا وحيدة بعد أن فقدت كل عائلتي في الحرب، ولا أعلم هل الانفصال كان خياراً جيداً ولا سيما أنّ الوضع لم يتغير". وتضيف "لا نزال نخشى على أنفسنا ليلاً ولا نشعر بالأمان، بل إن الوضع أسوأ من أيام الوحدة".
أما جون فيقول لـ"العربي الجديد"، "حققنا الانفصال بعد نضال ولأننا نستحق أن نعيش في سلام"، مضيفاً "صحيح أنّ الحركة الشعبية خذلتنا وأدخلت الدولة في رعب، لكن حتماً سيأتي السلام الذي يستحقه الجنوبيون".

اقرأ أيضاً: خطر الانفصال يهدد إقليم دارفور السوداني

كما أدى اندلاع الحرب في الدولة الوليدة وفشل كافة جهود وساطة الهيئة الحكومية للتنمية في دول شرق أفريقيا "إيغاد" في تحقيق السلام إلى إحباط المجتمع الدولي الذي شجع بقوة الانفصال وتبنى الجنوب.
وكانت "إيغاد" قد أقنعت الأطراف المتصارعة، الحكومة والمعارضة المسلحة، بتوقيع نحو خمس اتفاقيات سلام وأخرى لوقف إطلاق النار، لكنها جميعها ولدت ميتة ولم تجد طريقها إلى التنفيذ.

تطورات لم يغب عنها الرئيس السوداني، عمر البشير، الذي قال في وقت سابق إن هناك جهات خارجية، لم يسمّها، تحدثت معه عن "ضرورة إعادة الجنوب الى حضن السودان الواحد بعد الفشل الذريع الذي تحصل"، ملمحاً إلى رفض الخطوة التي رهنها بإجراء استفتاء للشماليين باعتبار أن قرار الانفصال كان أحادياً.
وعلمت "العربي الجديد" أنّ جهات دولية وإقليمية تتحرك جاهدة لإرساء استقرار وسلام دائمين في دولتي السودان وجنوب السودان يمكن أن يتحقق معه مقترح دولي بإنشاء كونفدرالية بين الدولتين تمكنهما من العيش في سلام، باعتبار أنّ استقرارهما يؤثر على الإقليم. كما أنّ هناك قضايا مفخخة لا تزال عالقة بين الدولتين بينها النزاع حول الحدود ومنطقة أبيي والنفط، ويمكن أن تسهم الكونفدرالية في حلها او تأجيل انفجارها.

ويرى مراقبون أن عملية الانفصال التي دفع إليها الجنوبيون دفعاً من قبل قادة الشمال والجنوب قد أثرت سلباً على الدولتين. ففي الجنوب اشتعلت الحرب الداخلية ولا سيما أنّ العدو المشترك، أي "الشمال"، قد انتفى، فضلاً عن الأزمات الاقتصادية والإنسانية.
أما السودان فقد عانى طيلة الأعوام الأربعة الماضية من أزمة اقتصادية كادت تطيح نظام الحكم، بعد أن فقد نحو 70 في المائة من إيرادات النفط الذي كان يجنيه، إثر تحقق الانفصال.
كما اشتعلت الحروب في مناطق لم تشهد نزاعاً أيام حرب الجنوب، وزادت حدة الاستقطاب السياسي داخلياً على الرغم من أنّ الحكومة وقتها نفت تماماً أن يؤثر الانفصال عليها، لتعود وتعترف في وقت لاحق بتأثيراته.

من جهته، يرى رئيس مركز دراسات السلام والتنمية في جامعة جوبا، لوكا بيونق، أن "الاستقلال تحقق نتيجة لنضالات وتضحيات ولفشل سياساتنا كشعبين وفشل الصفوة في الشمال في أن تخلق أرضية لدولة موحدة بقناعة التنوع كأساس يفتخر به. ويلفت بيونق إلى أنّ "الجنوبيين، منذ 1954 كانوا يطالبون بالفدرالية، وفي مفاوضات أبوجا 1993 كانوا يتحدثون عن الفدرالية والكونفدرالية باعتبارها أفضل خيار، أخذاً بعين الاعتبار أنّ الجنوب علماني والشمال إسلامي". ويضيف "لكن وقتها الحكومة في الخرطوم رفضت ذلك تماماً باعتباره انفصالاً مقنناً، إلى أن تحقق الانفصال"، متهماً من سمّاها "الصفوة الإسلامية في السودان" بأنها قادت الجنوبيين إلى الانفصال. ويرى رئيس مركز دراسات السلام والتنمية في جامعة جوبا أن دولة جنوب السودان بعد أربع سنوات من الاستقلال قد دخلت في ثلاث مراحل انتقالية كانت نتيجتها النهائية الحرب المشتعلة الآن، وهي الانتقال من الحرب إلى السلام في ظل تحديات كبيرة، وثانياً الانتقال من حركة تحررية إلى حركة حاكمة لديها عقلية عسكرية تطغى عليها، وأخيراً التحول من دولة واحدة إلى دولة مستقلة وفقدان قائدها جون قرنق. ويعتبر بيونق أن "ذلك كله تأثر بلعنة البترول وبالمؤسسات الهشة، فضلاً عن أنّ الجنوب دولة مغلقة محاطة بجيران لا يمكن أن يطلق عليهم أصدقاء". ويلفت بيونق إلى أنّ "الحركة الشعبية فشلت في الاستفادة من الظروف المحيطة في خلق رؤى قومية"، مشيراً إلى أنّ الهدف كان الانفصال في حد ذاته من دون النظر إلى القضايا الأخرى، وجاء على حساب المساءلة وتوحيد المؤسسات فضلًا عن مواكبة التحديات، مرجعاً كل ذلك إلى ضعف الحركة الشعبية.

المساهمون