كان قد فشل في جمع المال كغيره من أبناء بلدته ممّن قصدوا دول الخليج لسنوات وعادوا بكلف بناء منازل وشراء عربات وافتتاح مشاريع، أقنع نفسه قبل إقناع الآخرين بأن ألف ريال سعودي بعد غيبة عامين ونصف هي قسمته من الرزق، كان يجيد الدفاع عن نفسه وعن مزاجيته.
لطالما حن "أبو عبدو" لبيروت التي عاد منها في الثلاثين من العمر، وحاول خلال ثلاثة عقود لاحقة العودة إليها بين الحين والآخر، هرباً من مهنة تعلّمها فيها، ولازمته لاحقاً كقدر، ومن بلد يظن أن ما في قلبه ليقوله يحتاج فضاءً أوسع من فضائه تتيحه تلك المدينة المتلونة.
في بلدته يدلف كل صباح من منزله الكائن في أعلى الجبل، يعبر الطريق العام للبلدة السياحية، المكتظ غالباً بحافلات نقل السياح، يصل إلى دكانه الصغير ويفتحه دون أي طقوس دعاء ممّا درج من استعطاف للمولى لوهب الرزق والمباركة فيه. كان واقعياً، يعرف أنه لا يستطيع تصليح أكثر من عدد محدد من الأحذية في اليوم الواحد، وعليه فهو يعرف سقف الرزق الممكن، هذا إن كانت لديه أحذية للتصليح أصلاً.
مع كل فقره، كان موضع احترام الكثيرين لأنه "آدمي"، التوصيف السوري الذي يشير إلى صدق الرجل وانضباطه في التعامل مع المحيط، وكان يمتاز عن كل الرجال المعروفين لأهله وأبنائه بما يعرف. أبو عبدو كان الوحيد الذي يحكي عن مقالات سمير قصير وقلمه "اللاذع"، حسب توصيفه، يحكي عن فان غوخ، عن الزنبق الأسود في هولندا، سلمان رشدي، السينما وأفلام كلينت إستوود، عن المقامات العراقية ورباعيات الخيام. كان ينتظر ابنته الوحيدة من بين أبنائه السبعة التي تتم دراستها لتضع كتاباً فيتلقفه بشغف، ويخبرها بين الحين والآخر كيف كان يتسلل إلى محيط كنيسة أنطلياس في بيروت أيام أعياد رأس السنة والميلاد ليستمع إلى صوت فيروز وهي ترتل بالسريانية، لم يكن معنياً سوى بصوتها، أما الله فقد كان مدى أوسع بكثير بالنسبة له، لا يحاط بملة ولا شعائر. لقد كره أبو عبدو حافظ الأسد كما لم يكره مخلوقاً، تجنّب هو الفقير التردد على الدوائر الرسمية، الحصول على بطاقة انتخابية، وحتى زيارة مدرسة حكومية ما للاطلاع على وضع أحد أبنائه.
أخرجهم، ونزح إلى مدينة أخرى لا قذائف فيها، لكن نظام الأسد الإبن موجود في كل زقاق منها، قضى فيها شهوراً من الذل الذي يعانيه أي نازح.
لسانه المسلط على النظام، بحثه عن أي بقالية قريبة فيها تلفاز يبث أخبار الثورة، كونه هو النازح لا يملك تلفازاً، ساقه للمعتقل وهو رجل عجوز.
لم يكن خائفاً، قال لزوجته ألا تقلق، سيعود بعد قليل كما يقول العناصر.
غاب طويلاً، ويوم أطلقوا سراحه من المحكمة العسكرية في تلكلخ، آخر محطة في اعتقاله، أخرجوه حافي القدمين، يرتدي سروالاً للنوم فقط، دون أي شيء يستر بقية جسده، وكانوا قد حلقوا شعره بطريقة شوهت شكله، فعلوا ذلك لإذلاله لا أكثر، كما فعلوا في كل مرة جردوه فيها من كل ملابسه خلال جلسات التحقيق.
في شوارع تلكلخ وقف ينتظر من يعطيه المال ليتمكن من السفر إلى أهله، كانت قطرات الدم تتجمّد أو ربما تجف في عروقه شيئاً فشيئاً، وكان الشعور بالذل أعمق من نشوة سماع هتافات التظاهرات المطالبة بإسقاط النظام.
وصل ليجد أبناءه وبناته كل في جهة، همس لزوجته يومها: أعلم أني لن أراهم مجدداً، بكى بصمت وغفا، ليستيقظ في غرفة العناية المشددة، عاجزاً عن السير والتحدث.
لم يكن غائباً عن الوعي، كان يتذكر وحده أيام الفقر، الحلم، صوت فيروز كل صباح وخيالاته حول "الحلوة التي قعدت تعجن في الفجرية"، سحن أبنائه الثلاثة في كل مرة عادوا فيها بإجازة خلال خدمة العلم وهم يرتدون المموّه والحذاء العسكري الذي يمقت.
دونما صوت قرر أن يغمض عينيه طويلاً، أن يغرق هذه المرة في الحلم، ترك للمستيقظين من أحبته أن يكتبوا على شاهدة قبره اسماً وتاريخ ولادة ورحيل، تركهم يتابعون الحلم بسورية تتسع لأكثر ممّا اتّسعت له بيروت التي طالما اشتاق إليها.
(سورية)