ذاكرة العراق المنهوبة... آمال مفقودة لاستعادة أرشيف الإذاعة والتلفزيون

06 سبتمبر 2019
العراق فقد أرشيفا إذاعياً وتلفزيونياً مهماً بعد الاحتلال(فرانس برس)
+ الخط -
يتذكر الإعلامي العراقي عماد الغرباوي، أحداث النهب التي تعرض لها أرشيف الإذاعة والتلفزيون العراقي، ومنها استديوهات (200 و400 و600) الشهيرة، والتي امتدت على مدار خمسة أيام، من 20 إبريل/نيسان 2003 وحتى 25 من الشهر ذاته، إذ شاهد بعينه سرقة وإحراق جزء من الأرشيف، الذي يوثق لكل المراحل التي مر بها العراق، بينما كان يؤدي مهام عمله مصوراً مشاهد بغداد لصالح تلفزيون (Alpha) اليوناني، كما يقول لـ"العربي الجديد"، وهو ما يؤكد عليه الصحافي علي عبد الأمير عجام، عضو لجنة التحقيق في سرقة أرشيف الإذاعة والتلفزيون التي شكلت نهاية العام 2003، قائلا إن ما ضاع لا يمكن تعويضه، ومن بينه الأشرطة التي كانت مخزنة في الأرشيف الموسيقي، والتي كان عددها قد وصل إلى 5 آلاف كاسيت في عام 1992، فضلا عن الأجهزة الخاصة بتشغيلها، كما يقول عجام، الذي دخل إلى أرشيف الإذاعة والتلفزيون أثناء تسجيل برنامج مع الموسيقار نصير شمة خلال تلك الفترة، مضيفا في إفادته لـ"العربي الجديد": "إنه الجمال الذي سُرق منّا".

ويعود أرشيف الإذاعة والتلفزيون العراقي رسمياً، إلى الثاني من أيار/مايو 1956، بعدما انطلق بث التلفزيون العراقي كأول تلفزيون في منطقتي الشرق الأوسط والوطن العربي، بحسب علي الشلاه، عضو هيئة الأمناء في شبكة الإعلام العراقي (مؤسسة مرتبطة بلجنة الثقافة في مجلس النواب)، والذي ترأس لجنة الثقافة والإعلام في مجلس النواب العراقي في الدورة البرلمانية 2010/ 2014.

نهب تاريخ العراق المصور

تعرضت مؤسسات الدولة العراقية، ومنها مبنى الإذاعة والتلفزيون وأرشيف إدارة السينما والمسرح والأرشيف العسكري وجريدتي الثورة والجمهورية الحكوميتين، إلى السلب والنهب على يد عصابات منظمة، عقب إعلان سقوط نظام صدام حسين رسمياً في التاسع من إبريل/نيسان 2003، وفق إفادة الغرباوي، الذي أضاف: "مبنى الإذاعة والتلفزيون لم يتعرض للسرقة فحسب، بل كان يُحرق أيضاً بعد سرقة الأرشيف منه"، متهما جماعات تنتمي إلى كتل سياسية كبيرة بنهب أجزاء من الأرشيف، وما تبقى من المحتوى جرى نهبه من قبل عراقيين خلال الفوضى التي انتشرت في تلك الفترة، كما يقول.

ويؤكد أمين ناصر، مدير مشروع الذاكرة الشفوية للعراق في مركز أمم للتوثيق والأبحاث، (مؤسسة ألمانية/لبنانية تعنى بتجميع الوثائق التاريخية والأعمال الفنية والحفاظ عليها)، ما ذهب إليه الغرباوي. ويروي ناصر ما وثقه عبر شهود قائلا: "توجهت مجموعات مسلحة تابعة لتلك الكتل السياسية إلى بغداد في إبريل 2003. لم يكن هناك أي هدف لها سوى الأرشيف. الناس تسرق البنوك والمتاحف، لكن هؤلاء كانوا يُفكرون بالأرشيف التلفزيوني والإذاعي العراقي".

ويتفق معه المصور في شبكة الإعلام العراقي والمصور السابق في التلفزيون رائد جوامير، الذي خبر مكان الأرشيف جيدا بحكم عمله، مشيرا إلى ذهابه بمعية مراسل أيرلندي في إبريل 2003 لتوثيق ما حدث للمؤسسات العراقية، ومنها مقر الإذاعة والتلفزيون. وتابع قائلا لـ"العربي الجديد": "سرقة الأرشيف تمت بشكل شُبه ممنهج، عبر أشخاص يعرفون ماذا يُريدون، لا شك في الأمر".


فشل لجنة التحقيق

بعد احتلال العراق جرى تشكيل مجلس الحكم في 12 يوليو/تموز 2003 كثاني هيئة إدارية بعد سلطة الائتلاف الموحد الذي كان يقوده الحاكم الأميركي بول بريمر، وشُكلت لجنة من إعلاميين وصحافيين عراقيين، وهم علي عبد الأمير عجام، وإبراهيم الزبيدي، ومحمد عبد الجبار الشبوط الذي رأس في ما بعد شبكة الإعلام العراقي، للتحقيق في ملف نهب أرشيف الإذاعة والتلفزيون العراقي.

ويروي علي عبد الأمير عجام تفاصيل ما تم بعد تشكيل اللجنة بالقول: "وصلنا كتاب بداية العام 2004 للذهاب إلى مكان في شارع أبي نواس للتأكد من وجود بعض من أرشيف الإذاعة والتلفزيون العراقي فيه. كان المكان قديما يشبه المستودع وفوضويا. لم أرتح لهذه العملية ولا لهذا البلاغ، لأن البلاغ كان مُدبراً على ما يبدو. من يعرف الأرشيف كأنه هو الذي دفعنا للذهاب إلى هناك، وكان يريد إبعاد النظر لا أكثر".

عاد عجام وزميلاه الزبيدي والشبوط، اللذان رفضا الحديث لـ"العربي الجديد"، إلى مجلس الحكم، وكتبوا تقريراً عن زيارتهم للمقر الذي قيل إن فيه الأرشيف العراقي، مفاده: "لا يُمكن الاعتداد بما رأيناه، ولا يُمكن الاستفادة منه بأي طريقة كانت، ولا علاقة له بأرشيف الإذاعة والتلفزيون العراقي".

وقال علي الشلاه، عضو هيئة الأمناء في شبكة الإعلام العراقي لـ"العربي الجديد": "علمنا أن اللجنة شُكلت. لكن لم تأت بأي جديد، ولم نر أي نتائج صادرة عنها"، مضيفا أنه شاهد عند زيارته لمقر الإذاعة والتلفزيون في مايو/أيار 2003، تلالا من أشرطة أرشيف الإذاعة والتلفزيون مرمية داخل المبنى، وحتى بعضها كان في الشوارع وتم بيعه على الأرصفة، لأن الناس لم يكونوا يعرفون قيمته، كما يقول.

وتم بيع أشرطة برامج ومسلسلات ومقاطع تخص الرئيس الأسبق صدام حسين، وحفلات جرت في حضور ولديه (عدي وقصي) وأغان عراقية خاصة بأرشيف الإذاعة والتلفزيون على أرصفة منطقة الباب الشرقي، جنوبي بغداد، وفق ما أكدته مصادر هذا التحقيق، ومنهم إعلامي عربي أوفد لتغطية الحرب الأميركية على العراق في العام 2003 (رفض ذكر اسمه بناء على طلبه)، والذي كان يشتري هذه الأشرطة المسروقة من أرشيف الإذاعة والتلفزيون العراقي في منطقة الصالحية ببغداد الواقعة على ضفاف نهر دجلة، من قبل أناس لا يعرفون قيمتها، بمبلغ يصل إلى مائة دولار أميركي للشريط الواحد، ويبيعها لبعض شركات ووكالات خارج العراق بمبالغ تراوح بين 500 و1250 دولارا، كما يقول، معللا قيامه بالأمر بأنه لم يكن يشجع على سرقتها ولم يطلب من أحد أن يسرقها.



أين الأرشيف الآن؟

على الرغم من إعادة تشكيل المؤسسات العراقية بعد عام 2003، إلا أن ملف الأرشيف ظل مسكوتاً عنه، بحسب الشلاه، الذي قال إن شبكة الإعلام العراقي تمتلك حالياً جزءاً من الأرشيف، لكن يصعب حصره حالياً لعدم توفر الآليات التي يُحفظ بها وإمكانيات تمنع نسخه وتهريبه، مضيفا: "نحن ضد فتح الأرشيف حالياً والعبث به، حتى لا يجري تهريب الباقي، لأن نسخ الأرشيف وبيعه للقنوات، يُعتبر تهريباً لما تبقى في حوزة الدولة العراقية".

ويقول رئيس مرصد الحريات الصحافية JFO (منظمة عراقية تعنى بالدفاع عن حرية الصحافة)، زياد العجيلي، لـ"العربي الجديد": "لا يوجد أي شيء في مكاتب رؤساء الحكومات، ولا في لجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب حول أرشيف الإذاعة والتلفزيون العراقي. كلما أرادت مجموعة من المختصين فتح الملف، يواجه بالإهمال والتسويف"، مضيفا أنه وصل لقناعة بأن "هناك مسؤولين في الدولة العراقية يعرفون جيداً أين هو الأرشيف حاليا"، وتابع: "تُجار ومسؤولو إنتاج سرقوا بعض أجزاء الأرشيف وباعوه مجدداً عبر قنوات رسمية إلى الدولة العراقية".


اللافت أن مسلسلات أنتجها التلفزيون العراقي قبل عام 2003 (غير متوفرة حالياً لدى شبكة الإعلام العراقي)، عرضت في قنوات عديدة، بحسب الشلاه، مشيرا إلى أنه يُشاهد دائماً على قنوات عراقية وعربية جزءاً من الأرشيف السابق، تحديداً المسلسلات التي تبثها تلك القنوات "دون حقوق"، ومن بينها مسلسل "ذئاب الليل"، فضلا عن مسلسل "برج العقرب" ومسلسل "عالم الست وهيبة" الذي أنتجه التلفزيون العراقي، وعرضه في العام 1998، وهو ما يتفق معه جوامير، مؤكدا أنه شاهد بعض الأعمال التي صورها للتلفزيون العراقي وهي تُعرض على قنوات عراقية وعربية مرات عديدة، كما يقول، كما تظهر ساعات من أرشيف الإذاعة والتلفزيون العراقي في قنوات تلفزيونية عربية وأجنبية ضمن أفلام وثائقية، أو برامج خاصة عن العراق، وفق ما وثقه معد التحقيق، ليبقى ملف الأرشيف الضائع مفتوحا بلا أمل في استعادة واحدة من أكبر المكتبات العربية الإذاعية والتلفزيونية.