ديمقراطية وفساد في تونس

14 ديسمبر 2014

تظاهرة انتخابية في تونس قبل جولة الرئاسيات الثانية (11ديسمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

أثار التصنيف الذي نشرته منظمة الشفافية الدولية، أخيراً، ويفيد بأن تونس تحتل حالياً المرتبة 77، بعد أن كانت تحتل المرتبة 75 في السنة الفارطة، أي بتراجع قدره نقطتان، أثار تساؤلات عديدة، استغلها، كالعادة، أنصار النظام القديم الذين يشتهون أن تهوي البلاد إلى حفرة سحيقة، حتى نتيقّن معهم أن الجنة المفقودة لن تعود إلا مع زين العابدين بن علي، وخصوصاً أن الناس لن ينسوا، بهذه السهولة، أنهم ثاروا من أجل وضع حد لفسادٍ استباح ثروات البلاد، وحوّلها إلى مزرعة خاصة.

فائض الحماسة الذي يُذهِب العقل، أحياناً، يحتاج إلى لجم، فالربط الآلي بين ذلك الترتيب      وازدياد ظاهرة انتشار الفساد لا يكون، في حالات عديدة، دقيقاً، فقد يكون ارتفاع الظاهرة ناجماً عن اعتباراتٍ لا علاقة لها بنموها الواقعي، وإنما بالولوج إلى مصدر المعلومات. فحرية البحث الأكاديمي، وحق النفاذ إلى المعلومة، وتغيير بروتوكولات إنتاج الإحصائيات ونشرها، من شأنها أن تؤدي، إحصائياً، وليس واقعياً، إلى ارتفاع النسب. سجّلنا مثل هذا الأمر في ظواهر اجتماعية عديدة، على غرار الهجرة، الانتحار، الإدمان، وغيرها من الظواهر ذات الصلة.

لست ممّن يدافعون عن حكومة المهدي جمعة، ولست، أيضاً، ممّن يبحثون عن إعفائها من المسؤولية عن تفاقم الفساد في عهدها، فلقد نقدتها في مواضع عدة. ولكن أعتقد أنها كانت وفيّة لسياق ولادتها. حينما أفضى الحوار الوطني الذي رعاه الرباعي إلى تخلي حكومة علي العريض، لم تكن مقاومة الفساد أولوية في خارطة الطريق، آنذاك، التي تنص على ضرورة المصادقة على الدستور وإجراء انتخابات قبل نهاية سنة 2014، مع ما يقتضيه ذلك من توفير مناخ ملائم، على غرار استقرار الأمن وتحييد الإدارة ومراجعة التعيينات. لم تكن مقاومة الفساد أمراً وارداً في تلك الأولويات. فهل كان ذلك محض مصادفة أم نسياناً؟

في مجال السياسة، لا يصدق التاريخ نسيانك، ولو كان ذلك حقيقة. كان استبعاد مقاومة الفساد من أولويات خارطة الطريق تلك خطأً فادحاً، حتى لو سلّمنا بحسن النيات والمهمات العاجلة، ذات الأولوية المطلقة، فما بالك وبعض أطراف ذلك الحوار نفسه محل شبهة. كان أحد الهياكل المشكّلة للرباعي، إلى حد قريب، نادياً للفاسدين الذين عبثوا بالصفقات العمومية وجعلوا تونس شركة خاصة، تنافسوا على إفلاسها.

اختفت وزارة الحوكمة ومقاومة الفساد، ومعها اختفت وزارة العدالة وحقوق الإنسان      والعدالة الانتقالية. لم تستطع الهيئة العليا لمكافحة الفساد أن تسيطر على الملفات، ناهيك عن ضعف مواردها وإمكاناتها. هل كان ذلك عملاً مقصوداً يُراد به الحد من فاعليتها؟ لا نستطيع الإجابة الدقيقة عن هذا السؤال، ولكن نعلم أن فتح مثل هذا الملف لم يكن هيّناً، حتى في حكومتي الترويكا.

كان حذف تلك الوزارات قرارات سيئة وغير مدروسة، لأنها أعطت انطباعاً سيئاً للرأي العام أن الحكومات المتعاقبة بعد الثورة فشلت في مكافحة الفساد، وألقت بالراية البيضاء واستسلمت إلى ذاك الفساد، وكأنه قدر لا يُقاوَم. وذهب بعضهم إلى حد اتهام تلك الحكومات بالتواطؤ معه والتطبيع معه. حجة حكومة المهدي جمعة في حذف تلك الوزارات كانت الضغط على حجم الميزانية، لكن تلك الوزارات كانت إدارات صغرى، تقوم على فرق عمل محدودة، تشتغل على ملفات، ولم تكن لها بيروقراطية أو إدارات جهوية، أو ما شابه ذلك. كانت الرسالة سيئة لمَن يتابع ملفي الفساد والعدالة الانتقالية، وهما من أوكد مقتضيات المرحلة الانتقالية، حتى لا نقول أهداف الثورة.

بعض مَن يتربّصون بتجربة الانتقال الديمقراطي الهشّ في تونس استغلوا، كما ذكرت، هذا التراجع، وشنوا الهجوم على الثورة والانتقال الديمقراطي برمته، واتهموه سبباً في ما يحدث من مصائب البلاد كلها. هذا القراءة ليست بريئة، وهي ليست بعيدة عن تلك المعلقات الإشهارية التي سارعت إحدى الشركات التي تدير، في الوقت نفسه، قناة خاصة بنشرها في بدء الدورة الثانية للحملة الانتخابية الرئاسية، لتسخّر كل جهدها لإضعاف المرشح المنصف المرزوقي وتشويهه، في انحياز فاضح وغير أخلاقي إلى مرشح "نداء تونس" خصمه الباجي قائد السبسي.

قسط مهم من الرأي العام يتهم الثورة بأنها شجعت الفساد، وأن 'الثوار" الذين اعتلوا سدة الحكم غضوا الطرف عن الفساد، وربما تواطأوا معه. سيحكم التاريخ وحده في وجاهة هذا الاتهام. ولكن، علينا أن نعترف أن مقاومة الفساد لم تكن أمراً سهلاً، حين التفّ على أعناق أعضاء الحكومة أخطبوط الدولة العميقة. وجدوا أنفسهم أمام خيارين، أحلاهما مر، إما إعادة ترتيب الأولويات وجعل الفساد أمراً مؤجلاً، بحثاً عن نجاعة الأداء والنتائج التي يطالب بها الجميع، أو مقاومة الفساد وانتظار الكارثة. الدولة العميقة خيّرت عديدين بين الخيارين، ولربما تم التفريط في الاثنين معا. حدث ذلك كله، والإعلام وقسط واسع من الرأي العام التونسي الذي صنعه إعلام فاسد، يشيطن، بدوره، الحكام الجدد، ويجعل من الفاسدين المرتبطين بنظام بن علي ضحايا الترويكا، ومشاريع شهداء جدد، فرأينا، أيضاً، كيف تصدى المجتمع المدني إلى إعفاء قضاة ورجال أمن وغيرهم ممّن تعلّقت به تهم الفساد، وعاد بعضهم متبجحاً، يلعن تلك "الأيادي المرتشعة"، ويتوعّد بقصّها، لو اقتربت منه ثانية.    

المثال الأبرز على صحة ما ذكرنا، وبقطع النظر عن الخطأ البيداغوجي والقانوني الذي ارتكبته مؤسسة رئاسة الجمهورية، كان "الكتاب الأسود" الذي خصص لملف الفساد في القطاع الإعلامي عموماً.

ثار الشعب التونسي على الفساد، وربما كان ذلك أهم ما حرّض الناس على الانخراط في الثورة. امبراطورية الفساد التي حكمها بن علي وأصهاره، حيث كان الاقتصاد السياسي للخوف، كما حللت ذلك بعمق الباحثة الفرنسية، بياتريس هيبو، في كتابها "قوة الإخضاع"، هو الذي كتم رائحة الفساد تلك، وحين تحرّر الناس من الخوف انفضح الكثير.

ليس الفساد سلوكاً غير أخلاقي، ولا هو مجرد رغبة جامحة فحسب، إنما ثقافة تنخر المجتمع. حين نصرّ على الانتفاع بشيء هو ليس من حقّنا يبدأ الفساد: عدد دراسي لا نستحقه، خدمة ليس لنا فيها حق، صفقة يستحقها غيرنا ونستولي عليها بطشاً وعدواناً... كلها محاضن للفساد.

لا تقاوم المجتمعات الديمقراطية الفساد بمجرد قوانين وإعلام استقصاء، وهذا جيد، لكنه غير كافٍ، فالقوانين الجيدة لن تلاحق الفاسدين، إلا إذا مثّل فسادهم اعتداء على ضمير الأمة ومصلحة الوطن.

كان الفساد، ولا يزال، أحد معاقل الاستبداد، فملفات الفساد كانت إحدى أوراق النُظُم المستبدة، لابتزاز الناس، وأساسا رجال الأعمال والساسة، لرهنهم بشكل أبدي، بل تحرص هذه النظم على نصب فخاخٍ لهم من أجل استعبادهم وإملاء أقسى شروطٍ مذلّة عليهم. تخاف تلك النظم من النزهاء، فتستبعدهم، ويذكر مَن عاشوا تلك المناخات مئات القصص عن تلك المفارقات الغريبة.

الآن، وتونس مقدمة على مرحلة جدية من الانتقال الديمقراطي، سيكون من المفيد جداً أن تستأنف الحكومة المقبلة ما تعطّل في ملف الفساد، باسم الاستحقاقات السياسية العاجلة التي أقرتها خارطة الطريق الفارطة. لكن، ينتابنا شك كبير، وقد عاد رجال النظام القديم، وأساساً أذرعه المالية التي استفادت منه، وعاثت في مقدّرات البلاد فساداً. لن يسمح هؤلاء، في اعتقادي، بفتح هذه الملفات، ولربما عمدت إلى طمس الجريمة، وهي التي ستدخل إلى الإدارة، طوراً منتشية وآخر متشفّية. هذه المرة، سيكون الفساد سلاحاً لإجهاض الانتقال الديمقراطي، وإتقاناً لانقلاب "ناعم"، بطعم الفساد.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.