ديما الأثيوبيّة

04 مايو 2014
+ الخط -
اسمها ديما. قدمت إلى لبنان منذ حوالى سبع سنوات. كانت صغيرة حينها. بالكاد طبقت العشرين. لكنها منذ ذلك الوقت، أرجأت أحلامها، ربما إلى الأبد، لتُعيل أسرتها وتتحضّر لمستقبل خبيث لا يكشف أوراقه. غافلتها الغربة. رسمت في مخيلتها أحلاماً كثيرة، كالمهاجر إلى أميركا. لم تكن قد شبعت تماماً من حقول أثيوبيا التي كبرت فيها، وسكبت شمسها فوق جسدها سمرةً جميلة، هي إحدى رموز "العمالة" في لبنان.  

حتى الهواتف الذكية تُعاملها على هذا النحو. اسمها على خدمة الـ "True Caller"، الذي يكشف هوية المتصل، ديما الأثيوبية. كأن إنسانيتها لا تكتمل من دون الإشارة إلى بلدها. هي رتبة تُحدّد كيفية التعامل معها. لكن خلف "أثيوبيتها"، تجلس إمرأة تهوى الرقص ومرافقة الرجال وارتداء الفساتين القصيرة.

كان حظّها جيداً. العائلة التي عملت لديها نزعت عنها "أثيوبيّتها". وثقت بها إلى درجة سلمتها مهام تربية أطفالها الثلاثة. استهوتها الأطباق اللبنانية فتعلمتها. تجيد صنع الحمّص والتبولة والكبّة. تتحدّثُ العربية بطلاقة. وتنشد أغنياتها، وقد كونت ذوقا فنياً خاصاً بها.

أحبّت شاباً وتزوجته. يعيشان في بيت صغير في الضاحية الجنوبية لبيروت. يتألف من غرفتين فقط. بعد زواجها، قرّرت تحرير نفسها من "العائلة". صارت حرّة، تعمل في البيت الذي تريده، وفق شروطها. تعلم في قرارة نفسها أن سرعتها في التنظيف ستجعل الزبائن "يركضون وراءها". وهذا ما حدث فعلاً. اختارت "الحرية" علّها تختصر غربتها، وليس طمعاً بها.

أرجأت "شبابها" إلى مستقبلٍ بدأت ببنائه. اشترت وزوجها أرضاً في أثيوبيا، وبدآ بتشييد متجر ضخم يتألف من ثلاثة طوابق. وليس بعيداً عنه، بيتها الذي مزجت في تصميمه بين الطابعين الأثيوبي واللبناني. تُحيط به حديقةٌ أرادتها متنفسا لأطفالها. تريدهم أن يُطلقوا العنان لطفولتهم، ويُصادقوا طبيعة غيّبتها بيروت تماماً، باستثناء بعض الأحواض الموزعة على درابزين شرفاتها الصغيرة. تنمو بين "الباطون" علّها تخفف من وطأته فوق صدورهم.

بقي أمام ديما القليل، قبل أن تودّع غربتها إلى الأبد، وتعيش حلماً مسؤولاً، خلا من أية "شيطنة". تكونُ الملكة. تستيقظ على مهل، تعدّ قهوتها، تأخذ قيلولة بعد الظهر، وترقص حتى طلوع الفجر. فهي منذ وطئت قدماها بيروت، توقفت عن الرقص. تناهى إلى مِسمعها أنه ليس من حقها "كعاملة"، وإن كان الكثير من أبناء بلدها لا يزالون يرقصون، لكنها أرادت تجنّب نظرات اللبنانيين. هربت منها حفاظاً على غربة "أسلس".

تُدرِك في قرارة نفسها أن بعض اللبنانيين يحسدونها على أملاكها. يريحها ذلك. كأنها تنتقم لأبناء بلدها، هي التي ابتسم لها الحظ نسبياً. تعدّ غنيّة في نظرهم، و"مغتربة" حالها حال الكثير من اللبنانيين. ينسون أنها ديما الأثيوبية، التي يلعب البعض لعبة "الحَزُّورة" أثناء مرورها في الشارع، لتحديد إن كانت سمرتها تميل إلى سريلانكا أو أثيوبيا. ينسون أيضاً أنها ختمت أحلى مرحلة من شبابها بالشمع الأحمر، وأن مساحيق التنظيف هرت جسدها. غربتها أصعب بفعل "أثيوبيتها".

في عيد العمال، لن يُفاجأ من رآها تركب سيارة الأجرة لتتوجه إلى عملها. فهي ديما الاثيوبية. بقي أمامها القليل لتحقق حلمها. عشاء في ليلة عيد الميلاد مع العائلة. لأن البيت والمتجر ليسا حلماً، بل مستقبل. إنهما ثمن "غربة" حمتها من العنف، ولم تنزع "أثيوبيتها".    

 

دلالات
المساهمون