ديفيس وبرينس... مغامرة استمرّت نصف ساعة

28 سبتمبر 2019
برينس لم يكن مستعداً للتعامل مع ديفيس كمنتجٍ (Getty)
+ الخط -
ينال العمل الفنّي والموسيقيّ حظوته بشكلٍ عام تبعًا لعدّة معطياتٍ تشكّل جوانبه؛ أحدها -إن لم يكن أولها- هويّة صنّاعه. عامل الجذب هذا هو ما يجعل تسجيلاً موسيقيًّا ما متموضعًا في مرتبةٍ معينةٍ، دونما الحاجة إلى اطّلاعٍ أدقّ على التفاصيل العملية الفنية، ويمنح حالةً قريبةً من الحصانة لبعض النتاجات التي جانبت الصواب؛ إذا ما نُظر إليها من دون الأخذ بالاعتبار الفضاء التجريبي وسياقها في المسيرة الفنّية لأصحابها، بل بمحاكمتها كموسيقى صرفة بعيداً عن خصوصيّة الظروف والإمكانيات وطريقة وصولها للمستمعين.

عادةً ما جسّد الزمن اختبارًا جوهريًّا لعديد الأعمال التي برزت رفعتها، وصُنّفت ضمن الكلاسيكيات، لتكون هي ما يُتّبع أكثر من أن تُقاس وفق دراساتٍ موسيقيّةٍ جادّة، لكن دور الإنترنت اليوم أدى إلى المزيد من التشويش لعملية التلقّي الفنّي؛ ففي تضافر عوامل التريند وتجمّعات المعجبين، إلى جانب القدرة على استصلاح وطرح نتاجاتٍ قديمةٍ للمرة الأولى، ما يكفي لحرف الاهتمام عن الموسيقى المسموعة بذاتها، ولو كانت سويتها منخفضة بحسب صانعي العمل أنفسهم.

ليس سرًّا أن مايلز ديفيس كان من أكثر المتابعين للصناعة الموسيقية وتوجهاتها، وعُرف عنه شغفه بمعاصريه، من دون أن يحصر الأمر في نوعٍ محددٍ. يرد ذكر برينس في كتاب "مايلز: السيرة الذاتية"؛ إذ يصفه أنّه أكثر الموسيقيين إثارةً ممن سمعهم عام 1982، ويستطرد في مديحه مشيرًا إلى أن لديه الفرصة ليكون ديوك إلينغتون الجديد إن واصل مسيرته الناجحة، لذا وضعه ضمن راداره.

في الوقت الذي أبرم ديفيس عقده مع "وورنر بروس"، كان توجهه للبوب جليًّا في "يو آر أندر آرست"؛ آخر أعماله مع كولومبيا، إذ قدّم فيه توزيعًا جديدًا لأغنيتي "هيومان نايتشر" لمايكل جاكسون، و"تايم أفتر تايم" لسيندي لوبر. على الجهة المقابلة، انضم عازف الساكسفون إيريك ليدز إلى فرقة برينس. وخلال فترة بسيطة، بدآ مشروعًا جانبيًا لفرقة "مادهاوس"، حيث قدّما ألبومين ينضويان تحت الفانك والجاز. وبحسب آلان ليدز -شقيق إيريك- مدير جولات برينس حينها، فإن ما جذبه للجاز كانا ألبومي "سكيتشز أوف سبين" و"كايند أوف بلو".

في ظلّ ظروفٍ مثاليةٍ، حيث جمعهما البحث عن تقديم الجديد وإخراج المستمعين من دائرة الراحة، كان كلا الفنانين لا يوفّر مديحُا للآخر، وكلاهما يملكان عقدًا مع شركة الإنتاج ذاتها، ولم يكن الأمر يحتاج إلى أكثر من مصادفةٍ في مطار لوس أنجليس نهاية عام 1985 كي يتعارفا بشكلٍ مباشر، ويسجّل برينس يومي 26 و27 ديسمبر 1985 الأغنية الوحيدة التي جمعتهما، والتي سيحجم كلاهما عن إصدارها في ألبوم ديفيس الأول مع وارنر بروس، "توتو". للمفارقة، كان اسم الأغنية "كان آي بلاي وذ يو؟".

في الواقع، لم يجتمع ديفيس مع برينس وفرقته ضمن استديو؛ إنّما أرسلت له شرائط عدّة من الأغنية لينتقي منها ما يناسبه ويضيف إليها ما يرتأيه. خلال أشهر، أعاد ديفيس الشرائط مع مقاطع عزفها على الترومبيت. في النهاية، لم يخرج التسجيل النهائي في ألبوم "توتو".

وفقًا لعازف الغيتار الإيقاعي ماركوس ميلر، المشارك في الألبوم، فإن برينس طلب عدم إصدار الأغنية، ويعزو ذلك لأنها كانت ذات مناخٍ بعيد عن بقية مقطوعات الألبوم. وفي تلك النقطة، شارك ميلر بمقطوعة "فول نيلسون" كتمهيد يسبق تعاون ديفيس مع برينس. لكن ذلك لم يغير نتيجة أن الأغنية بقيت حبيسة الأدراج، وتكون "فول نيسون" المقطوعة الأخيرة في الألبوم.

بحسب ميلر، فإن ديفيس كان شديد الاهتمام بأعمال برينس، وتأثّرت أعماله به خلال الثمانينيات؛ ومردّ ذلك، وفق سيرة ديفيس الذاتية، لحضور الجانب الكنسي في أعمال الموسيقي الشاب وقدرته على تنفيذ كامل العملية الفنية منفردًا، من الكتابة إلى العزف والإنتاج والغناء، علاوةً على الأداء والتمثيل. يشير عازف الغيتار الإيقاعي، داريل جونز (مايلز ديفيس، رولينغ ستونز) إلى أن آثار أعمال جيمس براون في نتاج برينس هو الأمر الذي لاقى استحسان ديفيس.

لم ينقطع التواصل بين ديفيس وبرينس بعد هذه التجربة، وبالفعل أدّى مايلز ثلاث مقطوعاتٍ من تأليف برينس، لكنّه لم يشاركه في أيٍّ منها، إذ لم يُجرِ دوره كمنتجٍ على أيٍّ من التجارب الثلاث؛ "بينتريشن"، و"جايلبيت"، و"آ غيرل آند هير بابي".

أصبح ليدز، في ما بعد، مديراً لاستديوهات "بايلزي بارك" التي شيّدها برينس، واحتضنت حفلًا خاصًا ليلة رأس السنة عام 1987 حين اجتمع ديفيس مع برينس على المسرح وتشاركا أداء Auld Lang Syne، وهي ترنيمة شعبية ذات جذور اسكتلندية، تؤذن بوداع العام. أُجري الحفل ضمن ترتيباتٍ خاصةٍ، وكان ريعه موجهًا للأعمال الخيرية، لكنّه غير منشور، ويتوافر مقطع فيديو قصير يجمع الفنانين لمدّة خمس دقائق، بينما يذكر بعض الحضور أن فقرتهما جاوزت النصف ساعة.

لا تظهر الصور المتاحة مناخًا ودياً، فالإيقاع يتفلّت من قبضة برينس، وأعضاء الفرقة يحاولون الحفاظ على البنية الموسيقية للمساحة التي يشغلها ديفيس، بينما يقتصر دور برينس على الأداء الجسدي والصوتي مع محاولة أن يتبعه العازفون وفق إشاراته وتوقيته، لكن الحادثة مرّت بسلام تبعًا لما صرّحه ليدز حول تجربة ديفيس مع برينس.

بدأ الأمر بدعوة ديفيس، الذي كان يحضر الحفل، للصعود إلى المسرح، لكنّ التقاطعات المرتبطة بما يمليه برينس على فرقته وما ذهب إليه ديفيس أثناء عزفه، نتجت عن لحظيّة الحادثة وتشتت العازفين المرافقين، وإن كان ليدز يؤكد غضب ديفيس بعد الحفل، متّهمًا برينس بمحاولة الإيقاع به.

بحلول عام 1991، بعد رحيل ديفيس، عرضت شركة "وورنر بروس" على برينس إتمام عمليات بعد الإنتاج على مقطوعاتٍ سجلّها ديفيس من تأليف الأول، بغية إصدارها في ألبوم قادم، لكنّه رفض العرض "لأن التسجيلات لا تظهر ديفيس في أفضل حالاته".

تكثر الأساطير الشعبية حول هذا التعاون المأمول؛ إذ إن الظروف المثالية التي أحاطت بعلاقتهما توحي بأكثر من تسجيلٍ وحيدٍ غير موفق، لكن معظم المقطوعات التي تُساق ضمن هذا الترويج غير دقيقة؛ وأشهر الأمثلة أغنية "كروشال" (crucial) التي صدرت ضمن ألبومٍ مهرّب يحمل ذات الاسم، لكن ديفيس لم يشارك بها.

يرى الناقد المتخصص في الجاز، فيليب فريمان، أن هذه التعاونات موجودةٌ لا شكّ، لكن السؤال الأجدى: كم هو مقدارها؟ ويرجّح أنها غير كافيةٍ لصناعة ألبوم، وفي العموم يرى أن تجربة برينس في الجاز هشّة وضعيفة.

المثبت أن ديفيس وبرينس طمحا لإصدار ألبوم، لكنّهما لم يكونا ليتخذا خطىً جدّية -داخل استديو- في حال اقتصر الأمر على بعض المقطوعات، ويذهب كثيرون للاعتقاد أن شركة "وورنر بروس" قد رغبت لهذا التعاون أن يتم وفق نطاق محدود، وليس كإصدارٍ مكتمل.

يذكر إيريك ليدز أن برينس لم يكن مستعدًا لأن يتعامل مع ديفيس كمنتجٍ ويسيطر عليه، بينما كان هذا مطلب ديفيس منذ البداية؛ أي الذهاب للجانب المجهول والذي يُمكن أن يجدد به ذاته ونتاجه. ويوضح آلان ليدز أن اهتمام برينس كان منصبًّاً على ديفيس الأيقونة، وما يمثّله اجتماعيًّا وسياسيًّا، إضافةً إلى هالته وحضوره على المسرح؛ ما جعل الحماس يطغى على محاولاته التي ابتعدت عن التمايز والفرادة.

المساهمون