أذكر هنا، أن مناحيم بيغن قال في مذكراته مُعلقاً على مذبحةِ دير ياسين: "لولاها لما قامت دولة إسرائيل".
وأذكر هنا أيضاً، أن كل الفلسطينيين من دون استثناء، سواء في الداخل الفلسطيني، أو في الشتات والمهجر والمخيمات، يتذكرون دير ياسين والمأساة التي تلتها. لم أُقابل فلسطينيا، سواء كان في أوروبا أو أي من الأميركيتين، وفي الدول العربية، ومن كل الأعمار، الأطياف والفئات، إلا ويعرف، ولو القليل، عن مجزرة دير ياسين وما خلفتهُ من آثار على الشعب الفلسطيني.
تأبى الذاكرة الفلسطينية نسيان فظاعة وإرهاب الاحتلال الاستيطاني بالعصابات الصهيونية التي قامت بإبادة جماعية لأكثر من نصف سكان قرية هادئة كانت تطل على القدس كل صباح. إن عدم النسيان هذا، هو تفوق الضحية على الجلاد، الذي طال إلى 68 عاماً، خلالها تشرد وتشتت هذا الشعب وعانى مجازر وويلات حروب حتى يومنا هذا.
الحرائق لم تتوقف بعد
واقع أليم ما زال يعانية أهل القدس وضواحيها، من بطش للاحتلال الصهيوني واستباحته خطف وقتل الأبرياء، وما زالت الوسائل هي نفسها، كما استُعملت بدير ياسين. ففي يوم 02/ 07/ 2014 خُطف الطفل الفلسطيني محمد حسين أبو خضير من حي شعفاط وعُذب ومن ثم حُرق وهو على قيد الحياة، وقد تمت هذه الجريمة الشنيعة على أيدي مستوطنين متطرفين، وعُثر على جثته في أحراش دير ياسين. وأيضاً في 31/ 07/ 2015 في بلدة دوما القريبة من مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، حيث هاجم المستوطنون منزلين فلسطينيين وأحرقوهما بشكل متعمد ما تسبب في استشهاد الطفل الفلسطيني علي سعد دوابشة ووالده سعد دوابشة ووالدته رهام، أما شقيقه أحمد (أربع سنوات) فأصيب بحروق من الدرجة الثالثة وهو الناجي الوحيد من هذه الجريمة.
شكّلت المآسي والمذابح في دير ياسين بداية النكبة وتحميل عبء المعاناة للشعب الفلسطيني، فمن جيل إلى جيل وفي الـ 9 من نيسان /إبريل من كل عام، تدخل قصة الخروج ونكبة الضياع والمنفى، وصور الإرهاب، وشقاء اللاجئين وبؤسهم وأحزانهم، وخيام اللجوء، كل بيت فلسطيني. ويعي الطفل/ة الفلسطيني/ة في كل مكان الممارسات العنصرية التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في عام 1948.
هذا الرعب والخوف الذي سببته إسرائيل حينذاك، جعل الكثير من الناس ينسون أبناءهم، ويحملون بدلا منها الوسائد... وقد صوّر هذا الجانب بكل معانيه الإنسانية وتداعياته غسان كنفاني في روايته (عائد إلى حيفا)، حيث لم تحمل صفية الوسادة، بل أُرغمت مع زوجها سعيد على ترك بيتها مضطرة، وبالتالي تركت ابنها الرضيع في السرير: "كان المساء قد بدأ يخيم على المدينة، وليس يدري كم من الساعات أمضى وهو يركض في شوارعها، مرتدا من شارع إلى شارع، أما الآن بات واضحا أنهم يدفعونه نحو الميناء، فقد كانت الأزقة المتفرعة عن الشارع الرئيسي مغلقة تماماً، وكان إذ يحاول الاندفاع في أحدها ليتدبر أمر عودته إلى بيته، يزجرونه بعنف: أحياناً بفوهات البنادق وأحياناً بحرابها".
ويستعرض ناصر الدين النشاشيبي في روايته "حفنة رمال" أحداث عام 1948 بصورة تاريخية لتثبيت الذاكرة العربية، من خلال عرضه لسقوط المدن الفلسطينية، يقول: "وهذه المدن العربية تسقط في يد العدو واحدة بعد الأخرى، في يوم 14 مايو سقطت مدينة صفد، وفي يوم 12 مايو سقطت مدينة يافا، وبعدها بثلاث أيام سقطت عكا، والأحداث تتلاحق.. والدماء تنزف.. والإرهاب يزيد.. (كما أرخ لمذبحة دير ياسين بدون وصفه للأحداث) لقد نشطت أعمال العصابات اليهودية الثلاث، الهاغاناه والإرغون، وشتيرن، بصورة مفزعة، واقترفت مذبحة دير ياسين بجوار القدس، وقتل في تلك المذبحة، مئات من الأطفال والشيوخ والنساء، ومُلئت بجثثهم آبار القرية".
إما أن ترحل أو تموت
حددت مجزرة دير ياسين سِمات حرب عام 1948 التي أشعلها الصهاينة "فإما أن ترحل أو تموت". يروي المؤرخ اليهودي ملشتاين أن جمهوراً يهودياً في حالة انفعال تَجمع في مُستعمرة جفعات شاؤول (فيما بعد جرت مصادرة أراضي دير ياسين لتوسع هذه المُستعمرة)، وإن النساء في المستعمرة أخذن يملأن مخازن البنادق والمدافع الرشاشة لإرسالها إلى المعتدين اليهود في دير ياسين.
كانت فرقة من القوات الصهيونية التي وصلت إلى البلدة، قبل بدء إطلاق النار، قد وصلت إلى منطقة الفرن، فاقتحمته وأمسكت بابن الفران، حسين (14 عامًا)، وألقت به داخل الفرن، ثم قتلت والده الذي حاول الهرب. وتقول الحاجة أم صالح: "أخذوا بطلع (20) حرمة من الفرن (أسيرات)، خشّوا ع الفرن، لاقوا ابن الفران عبد الكريم، يا ويلي عليه، ابن 14 سنة، حطوه في بيت النار، أبوه من حلاوة الروح شرد، لحقوه بالقنابل والبارود وقتلوه في الشارع".
ويروي فهمي زيدان الناجي الوحيد من عائلته: "جمع اليهود أفراد أسرتي جميعاً وأداروا وجوههم إلى الحائط، ثم راحوا يطلقون علينا النار، أُصبت في جنبي، واستطاع بعض الأطفال النجاة لأننا اختبأنا وراء أهلنا، مزق الرصاص رأس أختي قدرية البالغة أربع سنوات من العمر، كما مزَق وجه أختي سمية (8 سنوات)، وصدر أخي محمد (7 سنوات)، وقُتل الآخرون الذين أوقفوا إلى الحائط: أبي وأمي وجدي وجدتي وأعمامي وعماتي وعدد من أولادهم".
وتروي حليمة عيد وتقول: رأيت رجلا يطلق الرصاص فأصاب عنق زوجة أخي خالدية، التي كانت موشكة على الوضع ثم شق بطنها بسكين، ولما حاولت إحدى النساء إخراج الطفل من أحشاء الحامل الميتة، قتلوها أيضا اسمها عائشة رضوان. ولقد تحدث الرجل الثاني في قوات الإرغون التي هاجمت دير ياسين، يهودا لابيدوت، وقال: "غيرنا التكتيك وقبل دخولنا أي مبنى كنا نُلقي فيه قنبلة يدوية أو ننسفه، وهذا سبب وقوع خسائر جسيمة في الأرواح من الرجال والنساء والأطفال".
ماذا رأى الصليب الأحمر
ولقد كان الفرنسي جاك دورينيه، مندوب الصليب الأحمر الدولي في القدس أول من دخل دير ياسين بعد إبادة سكان القرية عن بكرة أبيهم، وقال إن العرب في القدس اتصلوا به هاتفياً يوم السبت في 10 نيسان وطلبوا منه التوجه فوراً إلى دير ياسين. فاتصل بالوكالة اليهودية وبقيادة الهاغاناه فأنكرا علمهما بالمجزرة، فأجابهم بأنه مصمم على الذهاب إلى القرية والتأكد بنفسه مما حدث، وحمّل الوكالة اليهودية مسؤولية حمايته، وتمكّن من دخول دير ياسين في سيارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر في 11 نيسان 1948.
وصف ممثل الصليب الأحمر الدولي ما شاهده في دير ياسين، وقال إن أفراد العصابة اليهود سواء الرجال منهم أو النساء كانوا جميعاً مدججين بالسلاح، يحملون الرشاشات والمسدسات والقنابل اليدوية والسكاكين الطويلة. وكان معظم السكاكين ملطخاً بالدماء، واقتربت مني شابة ذات عينين مجرمتين وأرتني بتباهٍ سكّينها التي كانت ما زالت تقطر دماً، وكان واضحاً أن هذا هو فريق التطهير للإجهاز على الجرحى وأنه كان يقوم بمهمته خير قيام.
ويقول الطبيب اليهودي ألفرد إنجل الذي رافق دو رينييه، مندوب الصليب الأحمر الدولي إلى دير ياسين: "كان واضحاً أن المهاجمين انتقلوا من منزل إلى آخر، وأطلقوا النار على الأشخاص عن كثب، لقد خدمت مدة خمس سنوات في الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى ولم أر مشهداً مفزعاً كهذا".
مسؤولية جنائية
مارست إسرائيل وتمارس أبشع الجرائم ضد الشعب الفلسطيني، ولم يُتخذ أي إجراء من قِبل المجتمع الدولي ومؤسساته الفاعلة، خصوصاً مجلس الأمن، أو المحكمة الجنائية الدولية أي إجراء لردع إسرائيل، فمنذ المذابح الجماعية بدير ياسين والتشريد والتهجير، صبرا وشتيلا، ومجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل، وصولاً إلى محرقة غزة في 2008 والتي استخدمت إسرائيل فيها كافة أنواع أسلحة الدمار والأسلحة المُحرمة دوليا، وخاصة الفوسفور الأبيض. وما ذكرته أعلاه من حرق أسرة الدوابشة قضاء نابلس سنة 2015.
وتقع المسؤولية الدولية على إسرائيل عن جرائمها بحق الشعب الفلسطيني (بما فيها مجزرة دير ياسين) بموجب العديد من المواثيق والإتفاقيات الدولية، ومن أهمها ميثاق الأمم المتحدة، واتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكول الإضافي الأول، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، واتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية. ومبادئ نورمبرغ التي صاغتها لجنة القانون الدولي، ومبادئ التعاون الدولي في تعقب واعتقال وتسليم ومعاقبة الأشخاص المذنبين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وكذلك العديد من قرارات الشرعية الدولية الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، التي طالما انتهكتها إسرائيل في تحدٍ سافر للشرعية الدولية، ومن أهمها القرار 242 الذي يطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المُحتلة سنة 1967، والقرار 194 الخاص بحق العودة للاجئين الفلسطينين، الذين هُجروا قسراً من أراضيهم في أعقاب حربي 1948 و1967، وكذلك القرار 3314 الخاص بتعريف العدوان.
ومن أكثر سُبل إثارة المسؤولية الدولية لإسرائيل، في ما يتعلق بشقها الجنائي الخاص بمحاكمة مجرمي الحرب، النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، كمنظومة قضائية جنائية دائمة تختص بالأفراد. فبثبوت المسؤولية الدولية على إسرائيل بشقَيها المدني في ما يتعلق بتحمل إسرائيل تبعات الأضرار الناجمة عن جرائم الحرب، التي يقترفها ممثلوها من قادة ومسؤولين وأفراد قوات الجيش، والشق الآخر الجنائي في ما يتعلق بمحاكمة مُجرمي الحرب، فإمكانية محاكمتُهم متاحة كما يلي:
1- بموجب الاختصاص القضائي العالمي، والذي تكفلهُ العديد من الاتفاقيات الدولية، أهمها اتفاقيات جنيف الصادرة سنة 1949، والبروتوكول الإضافي الأول الصادر سنة 1977.
2- أمام المحاكم الدولية الخاصة، والتي يقتصر حق تنظيمها على مجلس الأمن.
3- وفق النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لأنها تُمثل سلطة قضائية دائمة يقتصر اختصاصها على الأفراد، وذلك بالنسبة للجرائم المرتكبة بعد دخول النظام الأساسي حيز النفاذ 2002.
لقد كان الهدف الأساسي لإبادة أكثر من نصف سكان دير ياسين هو الترحيل الجماعي للفلسطينيين ومصادرة الأراضي والأملاك العربية وتهويدها، وقتل أكبر عدد ممكن من العرب، من أجل احتلال القدس والمناطق المحيطة بها. يقول مناحيم بيغن في كتابه "الثورة": "أصيب العرب بعد دير ياسين بهلع قوي لا حدود له، فأخذوا بالفرار للنجاة بأرواحهم، وسرعان ما تحول الهرب الجماعي إلى اندفاع هائج جنوني لا يمكن كبحهُ أو السيطرة عليه. إن الأهمية الاقتصادية والسياسية لهذا التطور لا يمكن المُبالغة فيها مهما قيل...."
(باحث فلسطيني)