ديريك ج. تايلور.. ضد الطغاة حتى أيامنا

23 أكتوبر 2018
(من إحدى رسومات جيمس غيلاري، القرن التاسع عشر)
+ الخط -
قبل يوم واحد من زيارة الرئيس الأميركي الأخيرة إلى بريطانيا، وتحديداً في الحادي عشر من يوليو/ تموز الماضي، جرى إطلاق كتاب للصحافي والمؤرخ البريطاني ديريك ج. تايلور حمل عنوان "أخبار زائفة.. وسائل الإعلام ضد الطغاة من هنري الثامن وحتى دونالد ترامب" (منشورات ذي هيستوري برس).

الكتاب جاء في توقيت مناسب، وهو يتطرق عبر مسار متشعب بين أروقة التاريخ للحرب الطويلة والمستمرة بين وسائل الإعلام وأولئك القابضين على السلطة. رحلة طويلة يتجول فيها الكاتب بين ضفتي المحيط الأطلسي، لينقل أجواء المعارك بين وسائل الإعلام وأصحاب السلطة في بريطانيا والولايات المتحدة، ويقدم فيها الحقائق التي لم يصدق فيها لا الممسكون بزمام السلطة، ولا أولئك الذين يمتشقون الأقلام، على حد وصف المؤلف.

ويورد الكاتب أن الإهانات والشتائم والعبارات من شاكلة "أخبار زائفة" و"صحافة غير شريفة" و"عنصري" و"غير مستقر عقلياً" المتبادلة بين معظم وسائل الإعلام الأميركية والرئيس ترامب في الوقت الراهن، ليست وليدة اليوم بل ثمة سلسلة أحداث مشابهة وأمثلة كثيرة. ففي إنكلترا وإبان عهد الملك ثيودور الثامن (1491 - 1547) وصفت الأوراق المطبوعة التي مثلت صحافة ذلك الزمان الملك بأنه "وحش فظيع"، أما هو فقد اتهمها بأنها تنشر "خرافات زائفة".

تُنسب للسياسي فليبو دي ساراتا (جمهورية البندقية سابقاً) مقولة "القلم بتول والمطبعة عاهرة" وفيها ذم للمطبعة التي اخترعها غوتنبرج وأتاحت المعرفة للعامة بعد أن كانت حكراً على النبلاء ووجهاء القوم. ويشير تايلور إلى أن اختراع الطباعة مثّل مرحلة مهمة في المعارك بين وسائل الإعلام وأصحاب السلطة في بريطانيا، فمنذ ذلك التاريخ نظر الذين يمسكون بالسلطة إلى الاتصال الجماهيري الذي سمحت به الطباعة آنذاك باعتباره تهديداً يحد من سلطتهم في السيطرة على الجماهير، بل قادراً على إثارة سخط الناس وصولاً إلى مرحلة التمرد.

ويسهب المؤلف في إيراد تفاصيل المعركة التي نشبت بين الملك البريطاني هنري الثامن وبين معارضيه الذين استغلوا ما وفرته المطبعة آنذاك من إمكانيات هائلة لنقل المعلومة، تمثلت في انتشار الكتب والنشرات التي كانت تهاجم الملك الذي انشق عن الكنيسة الكاثوليكية في روما، بعد أن عارضت فكرة طلاقه من أرملة أخيه كاترينا دي أوريغون لكي يتزوج من عشيقته آن بولين.

ويورد المؤلف في الفصل الثاني تفاصيل لمعركة أخرى دارت بين الملك تشارلز الأول الذي صعد إلى العرش عام 1625 وجاء بفكرة أن الملوك مسؤولون أمام الله وليس أمام البرلمان، وعمد إلى منع طباعة دوريات الأخبار التي اصطفت إلى جانب البرلمان في هذه المعركة، ووجدت مساندة من الجمهور الذي كان متعطشاً إلى معرفة أخبار الصراع بين الملك والبرلمان.

وسيبرز في هذه الحقبة اسم الكاتب مارشماونت نيدام الذي أسس عام 1643 دورية "ماركوريوس بريتانيكوس" التي كانت ناطقة باسم البرلمان والمعارضين للملك، وقد اعتُبرت آنذاك من الأشكال الأولى للصحافة.

وقد حاولت السلطات آنذاك الحد من قوة وتأثير الطباعة، حيث وُضعت القوانين التي تعرقل وصول المعلومات إلى الجمهور، والتي تمثلت في ضرورة حصول كل صاحب مطبعة على إذن أو ترخيص من السلطات. وفي مرحلة أخرى فُرضت رسوم مالية باهظة على الصحافة التي تنطق بلسان المعارضة، بينما أُعفيت منها تلك التي تواليها.

في سرديته للمعارك بين الطغاة ووسائل الإعلام يعبُر بنا المؤلف الضفة الأخرى للمحيط، ونحط معه في ضيافة الصحافي الأميركي أشعيا توماس (1749-1831) الذي بدأ حياته المهنية في مطبعة في بوسطن الأميركية، وبعد أن تعلّم المهنة وهو في السادسة عشرة من عمره، سافر عام 1765 إلى المستعمرة البريطانية هاليفاكس (كندا) مواصلاً نفس المشوار، حيث عمل مع صاحب مطبعة هولندي يدعى أنطون هنريك كان يصدر صحيفة "هاليفاكس غازيت".

اصطدم توماس مع السلطات البريطانية في هاليفاكس التي أصدرت عام 1765 "قانون الدمغة" الخاص بالمستعمرات البريطانية والذي يفرض ضرائب مالية على كل المواد المطبوعة في تلك المستعمرات بما فيها الصحف، والذي يبدو أنه يهدف إلى التضييق على الصحف وأصحاب المطابع الذين يتخذون موقفاً مناهضاً للسلطات، خاصة "هاليفاكس غازيت" التي وصف الحاكم البريطاني هناك صاحبها بأنه "طابع الفتنة".

غادر توماس هاليفاكس عام 1767 وحط مرة أخرى في بوسطن، وهناك سيشتري المطبعة التي تعلم فيها أبجديات المهنة، ومعها صحيفة "ماسوشيتس إسباي" وسيخرجها بوجه جديد عام 1770، ليواصل مناهضته للحكم البريطاني، خاصة عند تغطية الصحيفة للحرب الأهلية الأميركية التي دارت بين فصيلين في المستعمرات الأميركية.

كانت الحرب المذكورة بين المحافظين الذي يتماهون مع البريطانيين سلطة الأمر الواقع في المستعمرات الأميركية وبين فصيل آخر عُرف باسم "ويغز" كان يطالب بالإصلاحات وبمزيد من الحرية السياسية. نقلت "ماسوشيتس إسباي" المعارك من الميدان مباشرة، وقد ساعدت تقاريرها في تقوية المعارضة الأميركية للوجود البريطاني.

اتخذت "سباي" منذ البداية موقفاً واضحاً ضد المحافظين، وقد أدركت السلطات البريطانية خطورة توماس وصحيفته فحاولت الضغط عليه لتتخذ الصحيفةُ موقفاً مؤيداً للمحافظين، لكنه رفض، فقدمته للمحاكمة، بيد أن هيئة المحلفين برأته ونصحت السلطات بأن تحدّ من حملتها ضد الصحيفة وصاحبها، حتى لا تثير عليها المزيد من السخط الشعبي. واستمرت حملة الصحيفة المؤيدة للثورة، وأصبحت المقر الذي يجتمع فيه معارضو الحكم البريطاني مما جعل السلطات البريطانية تطلق عليها لقب "بيت الفتنة".

يعود بنا المؤلف إلى لندن مرة أخرى، ليرسم لنا لوحة جديدة من المعركة بين وسائل الإعلام والطغاة. يحدثنا الكاتب في هذا الفصل عن الكارتون السياسي، وهو لون من ألوان التعبير عن الرفض لأفعال السلطة التي لا تجد قبولا لدى المعارضة.

وقد برز في هذا المجال الرسام جيمس غيلاري ومالكة إحدى دور الطباعة وتسمى حنا همفري. كان جيمس يرسم اللوحات الساخرة التي تظهر أهل السلطة كأغبياء لا يهتمون ببقية أفراد الشعب.

لعب الكرتون السياسي دورا هاما في المعركة ضد أهل السلطة في بريطانيا خاصة في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر. لم يعرف الكارتون السياسي طريقه إلى الصحف في بادئ الأمر، وإنما كان ينشر عبر اللوحات التي تعرض في الأسواق ليشاهده المارة، أو يشتريها علية القوم من الطبقة السياسية.

يبدو أن الوخز بالفن قد آلم أهل السلطة الذي سعوا مرار ا إلى تحييد سطوته، وقد اتجهت السلطات في النهاية إلى سطوة المال لكي توقف غيلاري عن مساره هذا فكان أن عقدت معه اتفاقا تمنحه بموجبه مبلغ 200 جنيه سنويا مقابل أن يتوقف عن انتاج الرسوم التي تسخر من الملك والملكة وأمير ويلز ، وأن يحول انتقاداته نحو المعارضة.

ستشهد حرب القرم عام 1853 بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية بروز ما يُعرَف بمراسلي الحرب، أولئك الصحافيين الذين يرافقون القوات وينقلون مشاهد المعارك بانتصاراتها وانكساراتها. وشاركت بريطانيا بجيشها إلى جانب قوات الدولة العثمانية عام 1854، وحينها سارعت صحيفة التايمز البريطانية إلى إرسال الصحافي المغامر وليم رسل ليكون عينها هناك ويأتيها بوقائع الحرب وخاصة ما يتعلق بجيش بريطانيا.

لم يكتف رسل بنقل أخبار المعارك، ولكنه نقل أيضاً ما رآه خللاً في أداء الجيش البريطاني وإهمال القيادات التي ورطت الجنود البسطاء وألقت بهم في أتون المواجهة. وقد تسببت تقارير رسل في إغضاب قادة الجيش البريطاني الذين وصفوا ما تنشره "التايمز" بأنه غير وطني. لكن بالمقابل أدت التقارير إلى نشوء رأي عام معارض للحرب، الأمر الذي تسبب في الإطاحة بالحكومة في نهاية المطاف.

وفي الجانب الآخر من المحيط سيبرز اسم آخر من مراسلي الحرب عام 1862 هو جورج سمولي مراسل صحيفة "نيويورك تربيون" الذي أرسلته لتغطية وقائع الحرب الأهلية الأميركية. وقد استطاع سمولي أن يتجاوز أسوار المنع التي فرضتها قوات الاتحاد على الصحافيين وحالت بينهم وبين نقل مشاهد القتال، حيث تطوع للعمل كضابط ضمن صفوف قوات الاتحاد، وكان له ما أراد.

يستمر الكاتب في نقل المواجهات بين السلطة ووسائل الإعلام، ونتوقف معه في الحرب العالمية الأولى حيث يُعرّفنا على الإجراءات القاسية التي اتبعها وزير الحرب البريطاني اللورد كتشنر ضد الصحافيين الذين كانوا ينقلون وقائع الحرب من جبهاتها المتعددة.

أظهر كتشنر امتعاضه من الصحافيين الذين رافقوه في حملته على السودان عام 1898، ولم يكن غريباً أن يسن ما يُعرف بقانون الدفاع عن المملكة بعد أربعة أيام من بدء الحرب العالمية الأولى. وقد منع هذا القانون نشر أي أخبار عن القوات البريطانية، بل ذهب أبعد من ذلك عندما نص على اعتقال أي مراسل صحافي يتواجد في ميدان الحرب وأن يُرحّل ويصادَر جواز سفره.

ولم تخلُ الحرب العالمية الثانية من الإجراءات التي سعت إلى تكبيل المراسلين الحربيين وتعقيد مهمتهم، وكان ذلك بدوافع الوطنية والحفاظ على الروح المعنوية للجيوش، وعدم إفشاء أسرارها للعدو.

ويختتم ديريك ج. تايلور كتابه بما نعيشه حالياً من أوجه المعركة المستمرة بين السلطة ووسائل الإعلام، والمتمثل في هجوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب على المؤسّسات الإعلامية الأبرز في بلاده.

المساهمون