لا صوت يعلو في أروقة القضاء المصري على أنباء التحقيق مع مسؤولين وإعلاميين وإحالة بعضهم إلى محكمة الجنايات بتهمة الإساءة لوزير العدل أحمد الزند، سواء في وقائع حدثت بعد توليه منصبه الوزاري أو خلال عمله بالقضاء وترؤسه نادي القضاة، فالزند الذي اختاره الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وزيراً، ضارباً بالمعارضة الشعبية له عرض الحائط، تحوّل إلى مركز قوة حقيقي داخل النظام، وإلى شخصية لا يمكن المساس بها أو التعرّض لها بالنقد في وسائل الإعلام.
استطاع الزند بعلاقاته بدوائر الاستخبارات والأمن والجيش الترويج لنفسه منذ بداية عهد الرئيس المعزول، محمد مرسي، كحامي حمى القضاة، حتى بات يوصف في وسائل الإعلام المقربة من هذه الدوائر بـ"مفجّر ثورة 30 يونيو، وعدو الإخوان، وأسد القضاة". وتمكّن الزند من تدجين الأوساط القضائية واستغلال موقفها من "الإخوان المسلمين" والإسلاميين بصفة عامة، ليقرّب المسافة أكثر بين القضاة والجيش والدوائر الأمنية، وأن يقدّم نفسه كمتحدث باسم القضاة بصفة عامة، وكزعيم لهم.
وفي الشهور التالية للإطاحة بجماعة "الإخوان المسلمين" من الحكم، بسط الزند سيطرته على وزارة العدل من موقعه كرئيس لنادي القضاة، فأصبح المتحكّم في شخصية الوزير، حتى أنه اختار صديقاً له هو رئيس محكمة النقض الأسبق عادل عبدالحميد، وزيراً للعدل في حكومة حازم الببلاوي بدلاً من رئيس مجلس الدولة الأسبق أمين المهدي، بعدما تم إخطار الأخير باختياره للمنصب، في سابقة لم يشهدها القضاء المصري من قبل، أي أن يكون رئيس نادي القضاة أقوى سلطة من رئيس الحكومة، وصاحب الكلمة الأخيرة في اختيار وزير العدل.
واختار الزند، بعد عبدالحميد، صديقاً آخر له هو نير عثمان، ولكن فيما بعد، وفي لحظة شهدت تباعداً استثنائياً بين الزند ودوائر السلطة، تم اختيار خصمه القاضي محفوظ صابر وزيراً في حكومة إبراهيم محلب الأولى. ولكن بعد مرور بضعة أشهر استغلت السلطة سقطة صابر عندما تحدث عن استحالة قبول أبناء جامعي القمامة للعمل في القضاء، وأطاحت به وجاءت بالزند، الذي يجاهر بتوريث العمل القضائي، ويؤيد تعيين أبناء القضاة الحاصلين على تقدير "مقبول" في النيابة العامة، ولا يجد غضاضة في الفخر بتعيين أبنائه والتعهد بتعيين أحفاده في القضاء.
ووفقاً لمصادر مطلعة، فإن السيسي لم يكن مرتاحاً في بادئ الأمر للزند لكونه "سليط اللسان ويصعب توجيهه"، وأنه استجاب لمطالبات تعيينه بناء على توصيات من جهاز الاستخبارات، مفادها أن الزند هو الوحيد القادر على استمالة القضاء بالكامل للسلطة، والقضاء على تيار الاستقلال المعارض للممارسات الشاذة في المحاكم.
وحقق الزند نجاحاً كبيراً في هذه المهام، فمنذ توليه منصبه أبعد جميع من لهم علاقة بتيار الاستقلال من ديوان عام الوزارة، وقرّب إليه جميع القضاة المعروفين بموالاة الحكومة، بمن في ذلك قيادات نادي القضاة، ومؤيدوه في معارك نهاية عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، ضد المستشارين زكريا عبدالعزيز وهشام جنينة. كما اختار مساعديه من بين المشرفين على انتخابات نادي القضاة، وقرّب منه قيادات النيابة العامة الذين كانوا الأذرع الرئيسية للنائب العام الأسبق عبدالمجيد محمود وتم إبعادهم في عهد "الإخوان"، وعلى رأسهم المستشار هشام بدوي الذي اختاره مساعداً لملف "مكافحة الفساد".
اقرأ أيضاً: القضاء المصري بعد الجيش... عصا النظام لـ"تأديب" معارضيه
كما قرّب منه القضاة المثيرين للجدل من أمثال المستشار شعبان الشامي، الذي حكم على الرئيس المعزول، محمد مرسي، بالإعدام والمؤبد في قضيتي التخابر والهروب من سجن وادي النطرون، وبرأ مبارك من جرائم قتل المتظاهرين، فعيّنه مساعداً لشؤون الطب الشرعي. وكانت الرسالة التي يبعثها الزند للسلطة والقضاة، على حد سواء، هي أن القضاء وضع يده بيد الدولة ضد المعارضين والإسلاميين، وأن النواة الصلبة للقضاء المصري تؤيد السيسي وتوجّهاته، وأن القضاة لا يلقون بالاً للانتقادات الحقوقية الداخلية أو الأجنبية.
بل توسّع الزند أكثر في محاربة المعارضين داخل القضاء، فاستخدم التفتيش القضائي تارة وأوعز لمجلس القضاء الأعلى تارة أخرى بإحالة القضاة المعارضين أو المتعاطفين مع "الإخوان"، وحركة 6 إبريل، وثورة 25 يناير، إلى مجالس تأديب وصلاحية. فشهد عهده فصل 15 قاضياً، ويمكن احتساب القضاة الذين تم فصلهم عام 2014 في قضايا بيان قضاة رابعة وغيرها، من ضحاياه أيضاً، لأنه كان المحرّك الرئيسي لهذه الاتهامات، عبر قضاة التحقيق الذين يتدخّل في تعيينهم، فاختيروا جميعاً من بين أصدقائه.
ونتيجة تشابك علاقات الزند الانتخابية والمالية والاستثمارية مع قضاة في مختلف المحافظات، استطاع بسط سيطرته على محاكم الاستئناف المختلفة، وعلى رأسها محكمة استئناف القاهرة، التي يختار رئيسها قضاة التحقيق المنتدبين للتحقيق في قضايا بعينها ترى النيابة العامة عدم مباشرة التحقيق فيها بنفسها. ومن بين هذه القضايا التي ظهرت فجأة، البلاغات التي قدّمها الزند ضد معارضيه ووسائل إعلام انتقدته أو فضحت سلوكياته المالية المشبوهة، كرئيس الجهاز المركزي للمحاسبات المستشار هشام جنينة، خصم الزند اللدود، وصحيفة "المصريون" وموقع "بوابة الأهرام" الذي كان قد نشر مستندات عن واقعة فساد قديمة للزند من واقع قضية نظرت فيها المحاكم.
واختير للتحقيق في هذه القضية أحد أبرز مؤيدي الزند في نادي القضاة، هو المستشار صفاء أباظة، والذي أحال الصحافيين في وسيلتي الإعلام إلى محاكمة جنائية، وحدد يوم 18 يناير/كانون الثاني الحالي موعداً للتحقيق مع جنينة لمساءلته بشأن اتهامات لنادي القضاة ووزارة العدل بالتهرب من الرقابة المالية ذكرها في حوار تلفزيوني.
وتحوّل الزند إلى مركز قوة لا يمكن تجاهله ويؤثر على السيسي شخصياً، وله كلمته المسموعة من الدائرة الاستخبارية الرقابية الجديدة، المُشكّلة من جهازي الاستخبارات العامة والرقابة الإدارية. وظهر هذا الأمر بنجاحه في استصدار قانون من السيسي يسمح بإقالة خصمه هشام جنينة من منصبه كرئيس للجهاز المركزي للمحاسبات في أية لحظة، إذا ثبت أنه أساء لجهات وهيئات الدولة، وهو شرط مطاط إذ يمكن تفسير أي تصريحات لجنينة على أنها إساءة للشرطة أو الجيش أو القضاة، طالما انتقد تصرفاتهم المالية. هذا الأمر تحقق جزئياً عندما تصيّد السيسي أخيراً تصريحات جنينة عن حجم الفساد المالي في مؤسسات الدولة، وشكّل لجنة تقصي حقائق فيها، قد تنتهي بإدانة جنينة شخصياً ومن ثم إقالته وإحالته للمحاكمة.
كما نجح الزند في اختراق جهاز جنينة، بتعيين مساعده هشام بدوي نائباً أول لجنينة، وهو ما يشير إلى إمكان تعيينه رأس جهاز المحاسبات بعد انتهاء فترة جنينة في سبتمبر/أيلول المقبل، أو بعد إقالته المحتملة خلال الشهور المقبلة.
وكان مراقبون يتوقعون أن يحقق الزند إنجازاً أكبر ويكون على رأس قائمة النواب المعينين من السيسي، ثم تزكيته ليصبح رئيساً للبرلمان، لكن الدائرة الاستخبارية الرقابية رفضت ذلك خوفاً على ما تبقى من شعبية للسيسي. فلم يصمت الزند، وردّ بإبعاد جميع من رشحهم منافسه الأول على رئاسة البرلمان المستشار عدلي منصور، واستطاع تحقيق خرقين في قائمة التعيينات الرئاسية، بنجاحه في الدفع برئيس محكمة النقض الأسبق سري صيام، ومساعده السابق المقرب منه حسن البسيوني.
وتؤكد مصادر أن الزند بات يمثّل الوريث الفعلي لجهاز أمن الدولة (الأمن الوطني حالياً) في أجواء التأثير على دائرة صنع القرار، فبعد أن استبعد السيسي هذا الجهاز من حساباته وأوكل مهمة إعادة هيكلته لمستشاره الأمني أحمد جمال الدين، أصبح الزند بما يظهره من قوة سيطرة على القضاء هو المزاحم الوحيد للدائرة الاستخبارية الرقابية، والوزير الوحيد الذي يتحكّم في نوعية التشريعات التي أصدرها السيسي خلال الشهور الأخيرة. وظهرت لمساته بارزة في قانون مكافحة الإرهاب، ولا زال يسعى لتمرير المزيد من القوانين لتسريع إجراءات التقاضي وتحويل المحاكمات العادية للمتهمين بالعنف إلى محاكمات استثنائية.
اقرأ أيضاً: صراع الأجهزة في مصر يمتد إلى رئاسة البرلمان