دليلك إلى الأنظمة المنحطّة

18 مارس 2015
الحفاظ على النفس هو المقصد الأول للشريعة الغراء (Getty)
+ الخط -

عام 1990 صدر أول دليل للتنمية البشرية، وهو متعلّق بتحديد مدى تقدم الدول أو تخلّفها، وكان القصد منه جبر العيوب المتعلقة بتقييم الدول وفقاً لمستوى الدخل، فأضاف مؤشريْن آخرين، هما التعليم والصحة، فوسّع قدر المستطاع جوانب التقييم، ليعطي صورة أمثل وأفضل.

ارتباط تقدم الدول وتخلفها وفقاً للتقديرات الدولية كان مع اعتبارات اقتصادية بالأساس، وأخيراً أضيفت الاعتبارات الاجتماعية، لكن الملاحظ أن تقديرات التخلّف لم تتعلق بنواحي الحريات والفساد وشرعية الحكم وما شابه هذه الجوانب، ورغم وجود تقارير دولية سنوية تصدر لتغطية تلك الجوانب، كالشفافية وأوضاع الحريات، إلا أنها لم تدخل في أي من تقارير تصنيف الدول لمتقدمة ونامية.

بإمكانك مثلاً أن ترى دولاً قمعية، لكنها تحتفظ بحجم رفاهية لمجتمعاتها وربما كرامة، تجعل مطالب التغيير "غير ملحّة"، كحالة الصين مثلاً، فنظام الحكم يدور على حزب واحد، لكن الاقتصاد وما يحققه من نمو، جعل الدولة القمعية تحافظ على شكل الحكم الحالي، مع وجود مطالبات تبدو حيناً وتخفت في أحايين أخرى.

أما في وطننا العربي، فيجتمع مع القمع الانحطاط، من حيث كم الكذب والتدليس والاستهانة بأقوات وأرواح وأعراض الناس، وهي مؤشرات خمسة نجعلها دليلاً لمَن أراد أن يقيّم الدول من حيث تقدمها وانحطاطها لا تخلّفها.


الكذب

من أخبث وأسوأ الصفات الإنسانية على الإطلاق الكذب، وإذا وصم به فرد كان دنيئاً، فكيف إذا اتفقت عليه جماعة؟ والأحط أن يكونوا ممّن ملكوا مقاليد البلاد والعباد.

من أمثلة النُّظُم المنحطة، نظام باع الوهم لأجل الدعاية الانتخابية لمؤسسة تريد السيطرة على مقاليد تلك الدولة، فروّج لجهاز بزعم معالجة وباء انتشر بين أفراد الشعب المنهك المطحون، وتم تخوين كل مشكك في ذلك الجهاز رغم الحجج العلمية التي سيقت، ثم ما لبث أن خفت الحديث بعد حصول المراد، وانتهى كل أثر لتلك الكذبة.


التدليس

المقصود بالتدليس الترويج لمعلومات خاطئة حتى يصدقها الجمهور الموجّهة تلك الدعاية إليه، لأجل صرف الانتباه عن المراد الحقيقي. فمثلاً يقوم النظام المنحط بالدعاية والتفاعل مع جهة ما، وما أن ينشب الخلاف وتنتهي بغيته منها، يقلب الدعاية ويجعلها عليها، حتى أنه لا يجد حرجاً بعد مدحها والخدمة تحت رئاستها، فيقول إنها خائنة وعميلة لجمهور الداخل، وإرهابية لحكام الخارج.

ومن التدليس أيضاً خلق حالة تعبئة إعلامية وشعبية لشن حرب في قطر آخر، لأجل قمع الجبهة الداخلية، وإنهاء كل أثر لفكرة التغيير التي اشتعلت منذ سنوات وطالت القطر المجاور له، دون أدنى اعتبار للضرر والقتل الحاصلين. فالتدليس هنا لقمع الشعوب لا لصنع الكرامة.


الأقوات والأرزاق

الاستهانة والعبث بأقوات البشر والمجتمعات، لا يدل على مجرد فشل، بل يدل على انحطاط في النفس، إذ إنه يقتّر الأقوات على الجمهور المراد إغضابه أو إسكاته، في حين أن رؤوس النظام تأكل ملء أشداقها.

ومثال ذلك قيام النافذين في البلد بالتضييق على معاش الناس وافتعال أزمات، كالكهرباء والبنزين، لأجل إغضاب الجمهور المعارض للنظام الموجود، ويتم استغلال ذلك بالانقلاب عليه، ورغم أن ذلك لا ينفي وجود أزمة فعلية، إلا أن زيادتها لزيادة معاناة الناس، لتحقيق غاية الاستيلاء على السلطة هو ما يستدعي الغضب والوصف بالانحطاط، ومثله التضييق أثناء المطالبة بالحرية، لصرف الناس عن أسباب التدهور ونقلها إلى تلك المطالبات "غير المسؤولة".


الأنفس

الحفاظ على النفس هو المقصد الأول للشريعة الغراء، وكذلك القوانين في الدنيا كلها، والاستهانة بها لا يعكس مجرد الإجرام المتأصل، بل يجمع معه أسفل الطباع البشرية، لأن إزهاق النفس لا يمكن معه إعادة، وإن أثره يمتد إلى كل من اقترب من المتوفَّى، وتصير الحسرة والمرارة لكل هؤلاء.

أحد الأنظمة المنحطة، عندما أراد أن يبعث برسالة لمجموعة من الشباب الغاضب ضده، وساهم في كسر الكثير من مقدساته، جعل رسالته قتل 74 فرداً منهم في مكان بهجتهم، ليقلب البهجة حسرة. تخيّل إن مجرد الرسالة قتل العشرات من الشباب. والنظام نفسه عندما أراد أن "يجسّ" نبض الشارع تجاه إرادته البطش بجمهور انقلب عليه، قتل منهم 85 فرداً تقريباً، فلما اطمأن قتل المئات.


الأعراض

هو كذلك من المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، فالاستهانة بالأعراض أحد أخطر أسباب اختلال الأمن بالمجتمعات، وربما يحتسب ولي المقتول مفقودَه عند ربه، لكن المبتلى في عرضه لا يحتسب أبداً، وإن أسكته القهر أو عدم الوصول للفاعل.

النظام المنحط هو الذي يقوم بانتهاكات تبلغ الأعراض لأجل قمع حراك الشعوب، سواء على مستوى المنتهَك أو المنتهَكة أو على مستوى الدوائر المحيطة، وتلك الانتهاكات تبدأ من أماكن التجمعات للتظاهر كالميادين الكبرى، وحوادث التحرش الجماعي بالاعتصامات المعارضة، مروراً بالاعتقال والتهديد بالانتهاك، انتهاءً بالتحرش اللفظي والجسدي والاغتصاب.

تلك المؤشرات لا تحصر أوجه انحطاط النظم، ووجود مؤشر واحد يكفي لوصف النظام بأن فيه خصلة من انحطاط حتى يدعها، أماً من اجتمعت فيه كلها، كان منحطاً خالصاً لا رجاء منه، وإن وعد وادّعى وزعم أنه "المنقذ".


(مصر)

المساهمون