دلالات تسمية أبو الغيط أميناً عاماً للجامعة

18 مارس 2016

أبو الغيط تعبير عن موقف النظام المصري (Getty)

+ الخط -
كثر الحديث عن جامعة الدول العربية في الآونة الأخيرة، ليس لتمكّنها من تسوية أزمة عالقة، وهو أمر لم تعهدنا به الجامعة، وإنما بسبب قرارها تصنيف حزب الله تنظيماً إرهابياً (وما لذلك من دلالات على سقوط الجامعة في المستنقع الطائفي)، وتعيين وزير الخارجية المصري السابق، أحمد أبو الغيط، أميناً عاماً جديداً لها. وهما قراران جريئان بكل المقاييس، خصوصاً بالنظر إلى تورّط الجامعة في مشكلاتٍ مذهبيةٍ، بسبب توجهات بعض الدول الأعضاء، وإلى انخراطها في مطالبة الشعوب بالتوبة بسبب الربيع العربي الذي أُجهض في مصر وليبيا وسورية، وفق حيثياتٍ ومساراتٍ مختلفة، بينما نجح في تونس، لكن البلاد تمر بظروف صعبة.
نكتفي، هنا، بتحليل القرار الثاني محاولة للوقوف عن دلالاته. لقرار تسمية أبو الغيط أميناً عاماً لجامعة الدول العربية الجريء دلالات قوية، فهو تأكيد على أن القضية الفلسطينية لم تعد قضية العرب المركزية، ولا همَّ الجامعة الأول، فالجميع يتذكّر مواقف الرجل، لمّا كان وزيراً للخارجية المصرية، من الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني ووقوفه إلى جانب إسرائيل ضد حماس وأهل غزة في عدوان 2008، حيث تبنى حينها الخطاب الأميركي والإسرائيلي، مقراً بحق إسرائيل في الدفاع المشروع عن النفس، وهو الحق نفسه الذي حرّمه على الفلسطينيين. بيد أنه لا يمكن تحميل أبو الغيط أكثر مما لا يطيق، وإعطاء الانطباع بأنه كان مهندس السياسة الرسمية المصرية، فهو كان يمثل سياسة نظام وسياسة مصر دولة. وبالتالي، موقفه تعبير عن الموقف الرسمي المصري، فلا معنى لانتقاده من دون انتقاد النظام الحالي الذي هو امتداد حقيقي لنظام مبارك.
بالطبع، لم تكن جامعة الدول العربية سنداً قوياً للفلسطينيين، وإلا ما وصلت قضيتهم إلى ما وصلت إليه اليوم. لكن، كان "الالتزام القومي" على مستوى الخطاب قائماً على الأقل، لحفظ ماء وجه الأنظمة العربية و"البيت العربي المشترك". لكن، مع تعيين أبو الغيط أحدث العرب قطيعة مع هذا التقليد الخطابي في سياساتهم حيال القضية الفلسطينية.
كما أن هذا التعيين تكريس وشرعنة "للثورة المضادة" إقليمياً: شرعنة وتعريب الانقلاب
العسكري في مصر، وإعادة الاعتبار للنظام الذي ثار ضده المصريون. ومن ثم، التعيين رسالة عربية رسمية قوية إلى قوى التغيير في العالم العربي: أياكم والانتفاضة مجدداً! ومن سوّلت له نفسه الانتفاضة على نظامه، والمطالبة بالتغيير والديمقراطية فسيجرّم ويلعن و"يكفر" ويوسم بالإرهابي ويسجن... من هذه الزاوية، يمكن اعتبار هذه التسمية دلالة أيضاً على استعادة الأنظمة العربية التسلطية عافيتها بعد مرور زوبعة الربيع العربي الذي أُجهض في مهده، باستثناء تونس التي تعرف توتراتٍ داخليةً، بسبب نشاط الجماعات الإرهابية وثقل البيئة التسلطية العربية. إنها رسالة لمن يهمه الأمر: زمن الربيع العربي قد ولى. فهو بالنسبة للأنظمة التسلطية مجرد انحرافٍ مؤقت، سرعان ما تم تداركه، لتعود الأمور إلى مسارها السابق. وهنا، تكمن أحد الإشكاليات البحثية الأساسية: كيف تمكّنت الأنظمة العربية من إعادة إنتاج الأنماط السياسية نفسها في ظرف زمني قياسي، وكأن أحداث الربيع العربي لم تكن. تجدر الإشارة هنا إلى أن العمليات الانتقالية لا تقود بالضرورة إلى التحول الديمقراطي، والحالة المصرية خير دليل على ذلك، حيث قادت إلى ترسيخ التسلطية وتدعيمها بشكل أقوى مما كانت عليه في العقد الأخير من حكم مبارك.
والملاحظ أن الدول التي عارضت في البداية، أو على الأقل تحفظت على تسمية أبو الغيط، إنما فعلت ذلك بالنظر إلى شخصه، وليس لتوليه الدبلوماسية المصرية. وتعبر محاولة فك الارتباط هذه بين الشخص والسياسة المصرية عن تناقضات المواقف العربية، فالأطراف العربية لم تصر، مثلاً، على ترشيح شخصية غير مصرية لهذا المنصب، ذلك أن الأنظمة العربية، بما فيها المصري، تعي جيداً أن تعيين أي عربي آخر خلفاً لمصري على رأس جامعة الدول العربية، في هذا الظرف، سيعتبر بمثابة تخلٍّ عربيٍّ عن النظام الانقلابي في مصر. ومن غير المستعبد أن يكون نظام عبد الفتاح السيسي قد استخدم هذه الحجة لإقناع نظرائه المترددين، بغض النظر عن شخص أبو الغيط، بأن خلافة مصر نفسها على رأس الجامعة تشكل دعماً وشرعنه للنظام المصري، ورسالة قوية للشعوب العربية التي قد تكون مازالت تأمل في ربيع عربي ناجح. ومن ثم فخلافة مصر نفسها تأكيد على عزم الأنظمة على طي صفحة محاولات التغيير (المجهضة)، واسترجاع المبادرة وإعادة تنظيم وتحصين البيت التسلطي إقليمياً ومحلياً في زمن التدخلات المذهبية.
ولا يختلف اثنان في أن اختيار أبو الغيط تكريس لتقليد تعيين وزراء خارجية مصر السابقين (أبو الغيط، نبيل العربي، عمرو موسى، عصمت عبد المجيد، محمود رياض، محمد عبد الخالق حسونة) على رأس جامعة الدول العربية. تقليد يجعل الأخيرة، بشكل أو بآخر، ملحقاً للخارجية المصرية، على الأقل في بعض القضايا. إذ من الصعب على وزير مصري سابق أن يتخذ موقفاً، وهو على رأس الجامعة يتناقض ومواقف بلاده، خصوصاً أن مقر الجامعة يوجد فيها.
فضلاً عن هذا كله، هذا التعيين دلالة على استحالة تكريس مبدأ التناوب على السلطة في رئاسة الجامعة، فمنذ إنشاء الأخيرة في 1945 (بإيعاز من البريطانيين)، سيطرت مصر عليها وعلى هياكلها، ما تسبب في توترات بينها وبين دول عربية، مثل تونس والجزائر خلال حكم جمال عبد الناصر. ولو وضعنا الحقبة الاستثنائية (1979-1990) لتولي التونسي الشاذلي القليبي رئاسة الجامعة، عقب اتفاقيات كامب ديفيد ونقل مقر الجامعة إلى تونس، والتي استقال منها عقب إعادته إلى القاهرة في عز أزمة الخليج، بسبب الغزو العراقي للكويت (وكأن همّ العربي الأساسي آنذاك إعادة مقرّها إلى القاهرة)، فإنه لا تناوب على رئاسة الجامعة. لكن، كيف بدول فشلت في تكريس التناوب محلياً أن تنجح فيه إقليمياً؟ ولا توجد منظمة إقليمية في العالم تسيطر على أمانتها العامة دولة عضو واحدة، وكأن العالم العربي منطقة الاستثناءات بكل المقاييس. ولا ترى الأنظمة العربية حرجاً في ذلك، وكأن الأمر طبيعي. وحتى الدول التي تبدي امتعاضها من هذه السيطرة المصرية على رئاسة الجامعة، كما حدث مع الجزائر في أوقات سابقة ومع السودان أخيراً، فإنها لا تخرج، في نهاية المطاف، عن منطق مرشح التوافق. قد يعود ذلك إلى لامبالاة بعضهم بالجامعة، وإلى مقايضات سياسية وحسابات وطنية، لكن النتيجة هي نفسها. استنساخ الرئاسة على مدى الحياة السائدة وطنياً بتكريسها إقليمياً. وطنياً للأشخاص، وإقليمياً لدولة دون سواها.
وبما أن التعيين الأخير يندرج ضمن استراتيجية تحصين ورد الاعتبار للأنظمة التي "ظلمتها" شعوبها بالانتفاضة عليها، و"تكفير" المطالبة بالتغيير والحرية، فإن توظيف جامعة الدول العربية أداة لتكريس التسلطية سيزداد حدة، فضلاً عن تورطها في بعض الأزمات، كما حدث في ليبيا خصوصاً، أين شرعنت التدخل الغربي، من دون التفكير في مرحلة ما بعد التدخل، فيما شرعنت التدخل العربي في اليمن، أو في انسياقها وراء النزعة الطائفية. أما موقفها من القضية الفلسطينية، فلن يهتم بإسرائيل، وإنما بزيادة حدة الصراع بين الأطراف الفلسطينية المتناحرة. فهي تقف وبوضوح إلى جانب فتح ضد حماس... تسير الجامعة التي هي تعبير لإرادة دولها الأعضاء، على نمط هؤلاء، مضيعة هي الأخرى فرص الإصلاح والتغيير.