بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين، مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين، مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
بعد تغيّر نظام الحكم في مصر من ملكي إلى جمهوري عام 1952، تمّ إلغاء الألقاب التي كانت سائدة سابقاً مثل "بيك" و"باشا"، والتي كانت تُمنح للشخصيات بموجب مرسوم ملكي. حالياً، في مصر وبلاد الشام، لا قيود على استخدام هذه الألقاب وبوسع أيّ كان أن ينتحل لقب البيك أو الباشا، دون أن يُعترَف بذلك رسمياً، كما يمكن أن يطلقه البعض على البعض الآخر مجاملة. في العهد الملكي في مصر حمل اللقب رسمياً اثنان من نجوم التمثيل: يوسف بيك وهبي وسليمان بيك نجيب.
وكان يوسف وهبي بيك ابن باشا. أبوه المهندس عبد الله باشا وهبي. وكان الفتى يوسف من هواة السينما شغوفاً بمشاهدة الأفلام مع صديق الطفولة، المخرج لاحقاً، محمد كريم. وكان من هواة المسرح بعدما شاهد مسرحية "عطيل" لفرقة سليمان القرداحي اللبنانية في مصر. لكن أباه رفض تماماً فكرة احتراف التمثيل. سافر يوسف وهبي إلى إيطاليا بحجة الدراسة، لكنه أمضى الوقت في متابعة العروض المسرحية وأدّى أدواراً صغيرة في السينما والمسرح. وهناك أطلق على نفسه اسم "جوزيبي رمسيس". جوزيبي هو يوسف باللسان الإيطالي ورمسيس فرعون مصر. وبعد وفاة أبيه سنة 1921 عاد إلى القاهرة. هناك تسلم نصيبه الوافر من الميراث وقرر أن ينشئ مسرحاً وفرقة يكون هو بطلها. واستطاع أن يحقق هذا الحلم بعد سنتين، ففتح مسرح رمسيس أبوابه للمرة الأولى في 10 مارس/ آذار 1923 بمسرحية "المجنون"، بطولة يوسف وهبي، وروز اليوسف وإخراج عزيز عيد. وكانت الفرقة تضمّ حسين رياض، واستفان روستي، وحسن فايق، وفتوح نشاطي، وأحمد علام. هؤلاء صاروا في ما بعد نجوم المسرح والسينما في مصر. وكان افتتاح مسرح رمسيس حدثاً في تاريخ المسرح المصري.
اقــرأ أيضاً
كانت للفرقة تقاليد جديرة بالاحترام، رواها لي يوسف وهبي وسمعتها من فنانين وصحافيين عايشوا تلك الفترة. "كانت الفرقة تهتم بالإخراج والديكورات والأزياء. وكنا نرفع الستار في الموعد المحدد ونغلق باب القاعة. ومن حضر متأخراً كان عليه الانتظار في البهو إلى حين فترة الاستراحة بعد الفصل الأول. وكان التدخين ممنوعا في الصالة. وكانت جدية العروض تمنع بعض المتفرجين من التعليق بصوت عال كما كان يحدث في بعض المسارح الأخرى. وكنا نقدّم كل أسبوع رواية جديدة، وآخر الموسم نعيد تقديم الروايات وفق نظام الريبرتوار".
وكانت مسرحية "غادة الكاميليا" هي العرض الثاني. ولجأت الفرقة في المواسم الأولى إلى تقديم المسرحيات العالمية التي ترجمها للفرقة كتاب معروفون، مثل فيدورا، ودافيد كوبرفيلد، وهاملت، ولويس الحادي عشر. ومن فضائل مسرح رمسيس أنه قدم أعمالاً لمؤلفين عرب، مثل علي أحمد باكثير (سر الحاكم بأمر الله)، وأنطون يزبك (الذبائح). وكان الأداء باللغة الفصحى. ثم بدأ يوسف وهبي يقدم المسرحيات باللهجة العامية وأغلبها مترجم عن الفرنسية، وهي مهمة قام بها في الكواليس أدمون تويما وفتوح نشاطي وروفائيل جبور، لكن أسماء هؤلاء لم تظهر لأن الأفيشات كانت تحمل اسم يوسف وهبي كمؤلف، وهو في الواقع قام بعملية التمصير. وكان يوسف وهبي واعياً بأساليب الإنتاج والترويج. أخبرني بأنه "قبل أن نفتتح مسرح رمسيس شاهدت عروض الفرق الأخرى. وكانت الهزليات هي السائدة، فقررت أن نقدم للجمهور لوناً جديداً. والناس حين شاهدوا الروايات الجادة اعتبروا عروض الفرق الأخرى تهريجاً". وأضاف: "في مسرحية الذبائح، كانت المشاهد عنيفة وبكى الجمهور. وأدركت أن الناس يحبون الميلودرام، فاتجهنا إلى تقديم هذا اللون. وكانت النسوة إذا عصرن المناديل المليئة بالدموع أعطيننا الضمانة بأن الرواية ستنجح".
كان يوسف وهبي حتى آخر أيامه يستخدم مصطلح "الرواية" وهو يقصد "المسرحية". وكان يقول "قدمنا رواية كرسي الاعتراف، ورواية راسبوتين، ورواية أولاد الفقراء". وكان بارعاً في ابتكار أساليب الدعاية. في الموسم الأول استخدم الفانوس السحري عند مدخل المسرح يعرض صور أبطال الفرقة مضاءة متلاحقة كالفيلم السينمائي. وكان يحرص على أن ينتهي العرض في وقت يسمح للجمهور باللحاق بوسائل المواصلات. وكان في المسرحيات يطلق العبارات التي يرددها المتفرجون مثل "يا للهول" و"ما الدنيا إلا مسرح كبير" و"شرف البنت زي عود الكبريت"، والعبارة الأخيرة أخذها عن الكاتب الفرنسي مارسيل بانيول في مسرحية "ماريوس" وأضاف إليها من عنده "ما يولعش إلا مرّة واحدة" وهي شرح للجملة الأصلية. وحين قمتُ باقتباس ثلاثية مارسيل بانيول في المسلسل التلفزيوني اللبناني "المشوار الطويل" حذفت هذه الجملة لأن الناس كانوا سيعتقدون أنني أخذتها عن يوسف وهبي.
اقــرأ أيضاً
ومن الألقاب التي أطلقت على يوسف وهبي أنه "عميد المسرح المصري" وهو فعلاً كذلك. لكن لقباً آخر تم تداوله وهو من وسائل الدعاية التي كان يستخدمها. يقول اللقب إن يوسف وهبي هو "مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ فن التمثيل"! هذه العبارة أثارت جدلاً لكنها ساهمت في ترويج اسم يوسف وهبي الذي صار نجماً في عشرينيات القرن العشرين، يقف على قدم وساق بجوار النجوم الذين سبقوه كنجيب الريحاني وجورج أبيض. وبعدما تكرّست شهرته، عاوده الحنين إلى السينما. أسس شركة إنتاج وكان فيلم "زينب" باكورة أفلامها، أخرجه محمد كريم، وكانت الأفلام لا تزال صامتة. ونجح الفيلم لدى عرضه سنة 1930. وبعد سنتين عاود يوسف وهبي إنتاج الأفلام مفتتحاً السينما الناطقة العربية بفيلم "أولاد الذوات"، من بطولته وإخراج محمد كريم. وفيه قامت أمينة رزق بدور البطولة النسائية لأول مرة في السينما، هي
التي كانت قد أصبحت ممثلة مسرحية مشهورة، انضمت إلى فرقة رمسيس في موسمها الأول.
وستبقى أمينة رزق أشد الناس وفاء ليوسف وهبي حتى آخر أيامه. وقد أخبرني بأن بهيجة حافظ بدأت تصوير الدور في باريس "ثم تشاجرت معي وعادت إلى القاهرة وصار بيننا قضايا في المحاكم. كان محمد كريم يريد إسناد الدور إلى عزيزة أمير، لكنني رفضت لأن زوجتي كانت تغار منها. وقلت أحضروا أمينة رزق من القاهرة، هي ممثلة قديرة وتستحق البطولة في السينما أيضا". كان يوسف وهبي بتمويل من زوجته الثانية الثرية عائشة فهمي (كانت الزوجة الأولى إيطالية) قد أسس مدينة رمسيس للفنون، وفيها مسرح واستديو تصوير أفلام سينمائية ومدينة ملاهي، وأخذ ينتج الأفلام والمسرحيات. سنة 1935 بدأ الإخراج السينمائي بفيلم "الدفاع" وعاونه فيه المخرج نيازي مصطفى. واستمر ينتج ويخرج الأفلام، وبعضها من إخراجه لحساب الغير، مثل فيلم "غرام وانتقام"، وهو من إنتاج استديو مصر سنة 1944، من بطولة يوسف وهبي وأسمهان التي توفيت قبل تصوير المشاهد الأخيرة "واضطريت أكمل الفيلم بدوبليرة صورتها من دون ما يظهر وجهها". (بالمناسبة في هذا الفيلم "نشيد أسرة محمد علي" الذي نال بسببه رتبة البكوية من الملك فاروق).
رغم شهرته كنجم ومخرج ومنتج، لم يكن أداء يوسف وهبي يعجب النقاد وأهل الخبرة. كانوا يرون في أدائه مبالغة غير واقعية. وهذا صحيح، وإن كان يعجب قسماً من الجمهور يعتبر الانفعال والصراخ من علامات التمثيل الجيد. قال عنه زكي طليمات "يبدو في أدائه وكأنه يتغرغر بالكلمات". غير أنه عندما عمل في السينما بإدارة مخرجين كبار نجح بإشرافهم في ضبط أدائه كما في "اسكندرية ليه" ليوسف شاهين أو "ميرامار" لكمال الشيخ.
اقــرأ أيضاً
في المقابل، كان يوسف وهبي ممثلاً كوميدياً بامتياز. تحضرني الآن أربعة من أفلامه الكوميدية، بينها اثنان من إخراجه، الأول: "عريس من اسطمبول" (1941)، مع راقية إبراهيم وبشارة واكيم، والثاني "بيت الطاعة" (1953)، مع هدى سلطان وفريد شوقي وماري منيب وإسماعيل يس. أما الفيلمان الآخران فمن إخراج فطين عبد الوهاب: "إشاعة حب" (1960)، مع عمر الشريف وسعاد حسني و"اعترافات زوج" (1969)، مع هند رستم وفؤاد المهندس وشويكار وماري منيب.
كان يوسف وهبي إنساناً ظريفاً، حاضر النكتة. ولذلك لم أندهش حين رأيته ناجحاً في الأدوار
الكوميدية. بل تساءلت أحياناً لماذا لم يسلك طريق الكوميديا من الأساس؟ لعله كما جمهوره في بدايات مسرح رمسيس، كان يعتبر الميلودراما هو التمثيل الحقيقي والكوميديا تهريجاً أقل مستوى. كان يوسف وهبي يمثل دوراً رئيسياً في فيلم "الحب الكبير" مع فريد الأطرش وفاتن حمامة (1968)، إخراج بركات. وكنت مساعداً ثانياً للمخرج. كان يوسف وهبي مدخناً وكنت كذلك. كان يشرب سجائر من دون فلتر. وذات يوم استهلك علبة الدخان واحتاج سيجارة وكنت قريباً منه فقال لي "ناولني سيجارة من عندك يا فارس". أعطيته سيجارة من علبتي فردّها وهو يقول "سيجارة بفلتر؟؟!!".. وأضاف: "يا للهول! اللي يشرب سيجارة بفلتر زي اللي بيبوس أخته".
صُوِّر "الحب الكبير" في بيروت، وفي لبنان صُور أيضاً "زمان يا حب"، من بطولة فريد الأطرش وبمشاركة يوسف وهبي، لكن مع زبيدة ثروت بطلة وعاطف سالم مخرجاً. وكان يوسف وهبي قد وزع إقامته بين القاهرة وبيروت بعد حرب يونيو/ حزيران 1967 وكانت لديه شقة في حيّ الأشرفية بالعاصمة اللبنانية أصبح منذ 1970 يقيم فيها مع زوجته الثالثة (والأخيرة) سعيدة منصور أشهراً طويلة إلى أن اندلعت الحرب في لبنان.
في بيروت كنت ألتقي به يومياً تقريباً، قبل الظهر في مكتب المنتج والموزع أنطون خوري بجوار سينما "غومون بالاس" في وسط بيروت على مقربة من مسرح شوشو. وكان أنطون خوري بالنسبة إلى يوسف وهبي: صديق العمر ومستودع الأسرار والأمانات المادية. كان شريكاً ليوسف وهبي وإدمون نحاس في ملكية استديو نحاس الشهير لتصوير الأفلام السينمائية، ثم باع حصته واستقر في بلده الأصلي لبنان في مطلع الستينيات. وهو أفرد لصديقه العزيز في مكتبه غرفة عمل. آنذاك لاحظت أن يوسف بيك يكتب بيده اليسرى. وأنه يستخدم النظارات لكنه لا يرتديها في الأماكن العامة. وحكى لي عن "المونوكل" الذي كان يضعه في بعض المسرحيات والأفلام على عينه اليسرى، قال: "هو جزء من الشخصية اللي انفردت بها، وأيضا كان يساعدني فعلا في النظر لأن عيني اليسرى أضعف من اليمنى".
وأحياناً كنتُ ألتقي بيوسف بيك في شقته في الأشرفية بعد الظهر، نتسلّى بلعب الورق "الكوتشينة"، وكانت المجموعة تضم: هند أبي اللمع، وإبراهيم مرعشلي، وجورجيت سباط لاعبين أساسيين، إضافة إلى اللاعبين الزوار أمثالي. وفي أول جلسة من جلسات "الكونكان" سألت هند أبي اللمع يوسف بيك "رح تلعبوا بمصريات"، فأجاب فوراً: "لأ.. ح نلعب بلبنانيات"! وبعد استهلاك الضحك، شرحت لهم أصل الكلمة التي دخلت اللهجة العامية اللبنانية في القرن التاسع عشر وأصبحت تعني النقود. لأن جيش إبراهيم باشا المصري حين جاء إلى لبنان كان الجنود يحملون عملة فضية، تداولها اللبنانيون وأطلقوا عليها "المصرية" وأصبح جمعها "مصاري" أو "مصريات". جمع يوسف وهبي في حياته أموالاً كثيرة وأنفق "مصاري" أكثر، سطعت عليه الأضواء سنيناً، وانحسرت عنه حيناً، وتوفي يوم السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 1982 عن عمر ناهز الرابعة والثمانين.
وكان يوسف وهبي بيك ابن باشا. أبوه المهندس عبد الله باشا وهبي. وكان الفتى يوسف من هواة السينما شغوفاً بمشاهدة الأفلام مع صديق الطفولة، المخرج لاحقاً، محمد كريم. وكان من هواة المسرح بعدما شاهد مسرحية "عطيل" لفرقة سليمان القرداحي اللبنانية في مصر. لكن أباه رفض تماماً فكرة احتراف التمثيل. سافر يوسف وهبي إلى إيطاليا بحجة الدراسة، لكنه أمضى الوقت في متابعة العروض المسرحية وأدّى أدواراً صغيرة في السينما والمسرح. وهناك أطلق على نفسه اسم "جوزيبي رمسيس". جوزيبي هو يوسف باللسان الإيطالي ورمسيس فرعون مصر. وبعد وفاة أبيه سنة 1921 عاد إلى القاهرة. هناك تسلم نصيبه الوافر من الميراث وقرر أن ينشئ مسرحاً وفرقة يكون هو بطلها. واستطاع أن يحقق هذا الحلم بعد سنتين، ففتح مسرح رمسيس أبوابه للمرة الأولى في 10 مارس/ آذار 1923 بمسرحية "المجنون"، بطولة يوسف وهبي، وروز اليوسف وإخراج عزيز عيد. وكانت الفرقة تضمّ حسين رياض، واستفان روستي، وحسن فايق، وفتوح نشاطي، وأحمد علام. هؤلاء صاروا في ما بعد نجوم المسرح والسينما في مصر. وكان افتتاح مسرح رمسيس حدثاً في تاريخ المسرح المصري.
كانت للفرقة تقاليد جديرة بالاحترام، رواها لي يوسف وهبي وسمعتها من فنانين وصحافيين عايشوا تلك الفترة. "كانت الفرقة تهتم بالإخراج والديكورات والأزياء. وكنا نرفع الستار في الموعد المحدد ونغلق باب القاعة. ومن حضر متأخراً كان عليه الانتظار في البهو إلى حين فترة الاستراحة بعد الفصل الأول. وكان التدخين ممنوعا في الصالة. وكانت جدية العروض تمنع بعض المتفرجين من التعليق بصوت عال كما كان يحدث في بعض المسارح الأخرى. وكنا نقدّم كل أسبوع رواية جديدة، وآخر الموسم نعيد تقديم الروايات وفق نظام الريبرتوار".
وكانت مسرحية "غادة الكاميليا" هي العرض الثاني. ولجأت الفرقة في المواسم الأولى إلى تقديم المسرحيات العالمية التي ترجمها للفرقة كتاب معروفون، مثل فيدورا، ودافيد كوبرفيلد، وهاملت، ولويس الحادي عشر. ومن فضائل مسرح رمسيس أنه قدم أعمالاً لمؤلفين عرب، مثل علي أحمد باكثير (سر الحاكم بأمر الله)، وأنطون يزبك (الذبائح). وكان الأداء باللغة الفصحى. ثم بدأ يوسف وهبي يقدم المسرحيات باللهجة العامية وأغلبها مترجم عن الفرنسية، وهي مهمة قام بها في الكواليس أدمون تويما وفتوح نشاطي وروفائيل جبور، لكن أسماء هؤلاء لم تظهر لأن الأفيشات كانت تحمل اسم يوسف وهبي كمؤلف، وهو في الواقع قام بعملية التمصير. وكان يوسف وهبي واعياً بأساليب الإنتاج والترويج. أخبرني بأنه "قبل أن نفتتح مسرح رمسيس شاهدت عروض الفرق الأخرى. وكانت الهزليات هي السائدة، فقررت أن نقدم للجمهور لوناً جديداً. والناس حين شاهدوا الروايات الجادة اعتبروا عروض الفرق الأخرى تهريجاً". وأضاف: "في مسرحية الذبائح، كانت المشاهد عنيفة وبكى الجمهور. وأدركت أن الناس يحبون الميلودرام، فاتجهنا إلى تقديم هذا اللون. وكانت النسوة إذا عصرن المناديل المليئة بالدموع أعطيننا الضمانة بأن الرواية ستنجح".
كان يوسف وهبي حتى آخر أيامه يستخدم مصطلح "الرواية" وهو يقصد "المسرحية". وكان يقول "قدمنا رواية كرسي الاعتراف، ورواية راسبوتين، ورواية أولاد الفقراء". وكان بارعاً في ابتكار أساليب الدعاية. في الموسم الأول استخدم الفانوس السحري عند مدخل المسرح يعرض صور أبطال الفرقة مضاءة متلاحقة كالفيلم السينمائي. وكان يحرص على أن ينتهي العرض في وقت يسمح للجمهور باللحاق بوسائل المواصلات. وكان في المسرحيات يطلق العبارات التي يرددها المتفرجون مثل "يا للهول" و"ما الدنيا إلا مسرح كبير" و"شرف البنت زي عود الكبريت"، والعبارة الأخيرة أخذها عن الكاتب الفرنسي مارسيل بانيول في مسرحية "ماريوس" وأضاف إليها من عنده "ما يولعش إلا مرّة واحدة" وهي شرح للجملة الأصلية. وحين قمتُ باقتباس ثلاثية مارسيل بانيول في المسلسل التلفزيوني اللبناني "المشوار الطويل" حذفت هذه الجملة لأن الناس كانوا سيعتقدون أنني أخذتها عن يوسف وهبي.
ومن الألقاب التي أطلقت على يوسف وهبي أنه "عميد المسرح المصري" وهو فعلاً كذلك. لكن لقباً آخر تم تداوله وهو من وسائل الدعاية التي كان يستخدمها. يقول اللقب إن يوسف وهبي هو "مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ فن التمثيل"! هذه العبارة أثارت جدلاً لكنها ساهمت في ترويج اسم يوسف وهبي الذي صار نجماً في عشرينيات القرن العشرين، يقف على قدم وساق بجوار النجوم الذين سبقوه كنجيب الريحاني وجورج أبيض. وبعدما تكرّست شهرته، عاوده الحنين إلى السينما. أسس شركة إنتاج وكان فيلم "زينب" باكورة أفلامها، أخرجه محمد كريم، وكانت الأفلام لا تزال صامتة. ونجح الفيلم لدى عرضه سنة 1930. وبعد سنتين عاود يوسف وهبي إنتاج الأفلام مفتتحاً السينما الناطقة العربية بفيلم "أولاد الذوات"، من بطولته وإخراج محمد كريم. وفيه قامت أمينة رزق بدور البطولة النسائية لأول مرة في السينما، هي
وستبقى أمينة رزق أشد الناس وفاء ليوسف وهبي حتى آخر أيامه. وقد أخبرني بأن بهيجة حافظ بدأت تصوير الدور في باريس "ثم تشاجرت معي وعادت إلى القاهرة وصار بيننا قضايا في المحاكم. كان محمد كريم يريد إسناد الدور إلى عزيزة أمير، لكنني رفضت لأن زوجتي كانت تغار منها. وقلت أحضروا أمينة رزق من القاهرة، هي ممثلة قديرة وتستحق البطولة في السينما أيضا". كان يوسف وهبي بتمويل من زوجته الثانية الثرية عائشة فهمي (كانت الزوجة الأولى إيطالية) قد أسس مدينة رمسيس للفنون، وفيها مسرح واستديو تصوير أفلام سينمائية ومدينة ملاهي، وأخذ ينتج الأفلام والمسرحيات. سنة 1935 بدأ الإخراج السينمائي بفيلم "الدفاع" وعاونه فيه المخرج نيازي مصطفى. واستمر ينتج ويخرج الأفلام، وبعضها من إخراجه لحساب الغير، مثل فيلم "غرام وانتقام"، وهو من إنتاج استديو مصر سنة 1944، من بطولة يوسف وهبي وأسمهان التي توفيت قبل تصوير المشاهد الأخيرة "واضطريت أكمل الفيلم بدوبليرة صورتها من دون ما يظهر وجهها". (بالمناسبة في هذا الفيلم "نشيد أسرة محمد علي" الذي نال بسببه رتبة البكوية من الملك فاروق).
رغم شهرته كنجم ومخرج ومنتج، لم يكن أداء يوسف وهبي يعجب النقاد وأهل الخبرة. كانوا يرون في أدائه مبالغة غير واقعية. وهذا صحيح، وإن كان يعجب قسماً من الجمهور يعتبر الانفعال والصراخ من علامات التمثيل الجيد. قال عنه زكي طليمات "يبدو في أدائه وكأنه يتغرغر بالكلمات". غير أنه عندما عمل في السينما بإدارة مخرجين كبار نجح بإشرافهم في ضبط أدائه كما في "اسكندرية ليه" ليوسف شاهين أو "ميرامار" لكمال الشيخ.
في المقابل، كان يوسف وهبي ممثلاً كوميدياً بامتياز. تحضرني الآن أربعة من أفلامه الكوميدية، بينها اثنان من إخراجه، الأول: "عريس من اسطمبول" (1941)، مع راقية إبراهيم وبشارة واكيم، والثاني "بيت الطاعة" (1953)، مع هدى سلطان وفريد شوقي وماري منيب وإسماعيل يس. أما الفيلمان الآخران فمن إخراج فطين عبد الوهاب: "إشاعة حب" (1960)، مع عمر الشريف وسعاد حسني و"اعترافات زوج" (1969)، مع هند رستم وفؤاد المهندس وشويكار وماري منيب.
كان يوسف وهبي إنساناً ظريفاً، حاضر النكتة. ولذلك لم أندهش حين رأيته ناجحاً في الأدوار
صُوِّر "الحب الكبير" في بيروت، وفي لبنان صُور أيضاً "زمان يا حب"، من بطولة فريد الأطرش وبمشاركة يوسف وهبي، لكن مع زبيدة ثروت بطلة وعاطف سالم مخرجاً. وكان يوسف وهبي قد وزع إقامته بين القاهرة وبيروت بعد حرب يونيو/ حزيران 1967 وكانت لديه شقة في حيّ الأشرفية بالعاصمة اللبنانية أصبح منذ 1970 يقيم فيها مع زوجته الثالثة (والأخيرة) سعيدة منصور أشهراً طويلة إلى أن اندلعت الحرب في لبنان.
في بيروت كنت ألتقي به يومياً تقريباً، قبل الظهر في مكتب المنتج والموزع أنطون خوري بجوار سينما "غومون بالاس" في وسط بيروت على مقربة من مسرح شوشو. وكان أنطون خوري بالنسبة إلى يوسف وهبي: صديق العمر ومستودع الأسرار والأمانات المادية. كان شريكاً ليوسف وهبي وإدمون نحاس في ملكية استديو نحاس الشهير لتصوير الأفلام السينمائية، ثم باع حصته واستقر في بلده الأصلي لبنان في مطلع الستينيات. وهو أفرد لصديقه العزيز في مكتبه غرفة عمل. آنذاك لاحظت أن يوسف بيك يكتب بيده اليسرى. وأنه يستخدم النظارات لكنه لا يرتديها في الأماكن العامة. وحكى لي عن "المونوكل" الذي كان يضعه في بعض المسرحيات والأفلام على عينه اليسرى، قال: "هو جزء من الشخصية اللي انفردت بها، وأيضا كان يساعدني فعلا في النظر لأن عيني اليسرى أضعف من اليمنى".
وأحياناً كنتُ ألتقي بيوسف بيك في شقته في الأشرفية بعد الظهر، نتسلّى بلعب الورق "الكوتشينة"، وكانت المجموعة تضم: هند أبي اللمع، وإبراهيم مرعشلي، وجورجيت سباط لاعبين أساسيين، إضافة إلى اللاعبين الزوار أمثالي. وفي أول جلسة من جلسات "الكونكان" سألت هند أبي اللمع يوسف بيك "رح تلعبوا بمصريات"، فأجاب فوراً: "لأ.. ح نلعب بلبنانيات"! وبعد استهلاك الضحك، شرحت لهم أصل الكلمة التي دخلت اللهجة العامية اللبنانية في القرن التاسع عشر وأصبحت تعني النقود. لأن جيش إبراهيم باشا المصري حين جاء إلى لبنان كان الجنود يحملون عملة فضية، تداولها اللبنانيون وأطلقوا عليها "المصرية" وأصبح جمعها "مصاري" أو "مصريات". جمع يوسف وهبي في حياته أموالاً كثيرة وأنفق "مصاري" أكثر، سطعت عليه الأضواء سنيناً، وانحسرت عنه حيناً، وتوفي يوم السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 1982 عن عمر ناهز الرابعة والثمانين.