بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين، مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين، مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
كان أهالي مدينة كونغزبرغ الألمانية يضبطون ساعاتهم على توقيت خروج الفيلسوف إيمانويل كانط من بيته في نزهته اليومية التي تبدأ في الثالثة بعد الظهر. واشتهر كانط بالسلوك اليومي الدقيق الذي لا يتغيّر. وكان نجيب محفوظ في نظامه اليومي مشابها لكانط. لقد درس الروائي العربي الرائد فكر كانط وهو طالب في قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة القاهرة، فهل تأثر بعاداته الشخصية أيضا؟ لست أدري. لكنه مارس روتيناً منتظماً: يخرج من بيته في حيّ العجوزة في الصباح الباكر مشياً على الأقدام حتى ميدان التحرير حيث الاستراحة الأولى في مقهى علي بابا، يطالع الصحف ويشرب فنجان قهوة ويدخن سيجارة. ثم يستأنف المشي إلى مكتب الوظيفة. بعد وجبة الغداء في المنزل: قيلولة. جلسة الكتابة من الرابعة بعد الظهر حتى الثامنة مساء. ثم الوقت الحر في السهرة. والعطلة الأسبوعية يوم الجمعة. وليلة أول خميس من الشهر مخصصة لسماع حفلة أم كلثوم، وهو من عشاق الطرب وأغانيها وأطلق اسمها على ابنته. ومن مظاهر الانتظام لديه ثباته على ناشر واحد لكل أعماله ("مكتبة مصر"). وبعدما توقف نجيب محفوظ عن النشر أعطى حقوق إعادة طبع مؤلفاته إلى "دار الشروق".
أخبرني نجيب محفوظ أن الكتابة اليومية مهمة لديه مثل ممارسة الرياضة لتقوية العضلات. قال "حتى لو لم يسعفني الإلهام في عمل روائي قيد الإنجاز، فإنني أنشغل بكتابة الرسائل". أما الوظيفة فهي مقدّسة. عمل في وزارة الأوقاف، ثم في وزارة الثقافة وكان مدير الرقابة على المصنفات الفنيّة، ثم أصبح من أركان مؤسسة السينما، تارة هو مدير عام وتارة رئيس مجلس الإدارة. إلى أن استقر به المقام الوظيفي كاتباً متفرغاً لدى جريدة "الأهرام". واستمر موظفاً حتى بعد بلوغه السنّ القانونية للتقاعد. وكانت خبرته الوظيفية المادة الخام لروايته "حضرة المحترم" وفيها التحليل الرائع لشخصية الموظف التقليدي.
وارتبط نجيب محفوظ بشلّة الحرافيش التي تجتمع مساء كل خميس، وتضم أدباء وفنانين منهم الممثل أحمد مظهر الذي قدمني إليه حين أخبرته أنه كاتبي المفضّل. كما واظب محفوظ على الحضور إلى مقهى "ريش" عصر كل يوم جمعة يستقبل الطلبة والكتّاب الشباب. حضرت إحدى هذه الجلسات في ربيع 1972. كان الشباب يحاورونه في موضوع العلاقات مع إسرائيل. وما زلت أذكر جيداً رأي نجيب محفوظ. قال: "نحن لم نخسر حرب 1967 عسكرياً فحسب، بل حضارياً أيضاً. أنا أقترح أن ندخل مرحلة لا حرب ولا سلم نبني خلالها أنفسنا لكي نكون مهيئين للحرب. يجب أن ننهض بالبنى التحتية ونوفر الخبز والدواء والعدالة للجميع. الجندي المريض أو الأمي أو المقموع لا يربح حرباً".
اقــرأ أيضاً
وفي 1978 استقبل نجيب محفوظ وفداً إسرائيلياً كان يزور القاهرة. واستقبل بعد ذلك أدباء وأساتذة إسرائيليين من الذين قرأوا أعماله المترجمة إلى العبرية. آنذاك تعرّض محفوظ لحملة عنيفة بسبب التطبيع مع العدو. كنتُ وقتها في الكويت وأطلعتني الإعلامية المصرية عايدة شريف (عملت مع محفوظ سابقاً في مؤسسة السينما) على رسالة تلقتها منه، عبّر فيها عن ألمه من الحملة القاسية عليه. اعترف أنه أخطأ لكنه لم يخن البلاد ولا القضية. وقال إن مكتب الرئيس أنور السادات اتصل به ونقل إليه رغبة "الريّس" في استقبال الوفد. (من يعرف محفوظ جيداً يدرك أن الموظف المحترم سيعتبر رغبة الرئيس أمراً). وبعد سنوات وخلال لقاء في القاهرة سألته عن ترجماته إلى العبرية وقيل إنه تقاضى عنها مكافأة مجزية، فأجاب: "ولا مليم. أصلاً الروايات دي تُرجمت أيام الحرب من دون إذني ولا معرفتي. بعدين مين اللي لازم يزعل؟ المفروض إن السلطات الإسرائيلية هي اللي تمنع ترجمة ثقافتنا وتعتّم عليها". وردد بيت أبي نؤاس: "تعجبين من سقمي؟ صحتي هي العجب".
في حياته المديدة (عاش 95 عاماً) لم يسافر نجيب محفوظ خارج مصر إلا ثلاث مرّات، منها مرّتان "تلبية لرغبة الريّس" جمال عبد الناصر، والثالثة بقصد العلاج. هو في الرحلات الثلاث مرغم. الأولى صيف 1959 أيام الوحدة مع سورية، سافر إلى يوغوسلافيا بلد الرئيس تيتو صديق عبد الناصر، مع وفد ضم أدباء مصريين وسوريين. والثانية عام 1962 إلى اليمن لزيارة الجنود المصريين هناك. والثالثة إلى لندن 1989 لإجراء جراحة في القلب. غير ذلك لم يغادر القاهرة إلا إلى الإسكندرية في فصل الصيف.
يومياً قبل الظهر يجالس صديقه الحميم توفيق الحكيم في المقهى المطل على كورنيش البحر. وكان الاثنان يتقاسمان غرفة المكتب في مبنى صحيفة "الأهرام" في القاهرة. ومرة ذهبت لزيارة نجيب محفوظ في مكتبه وكان توفيق الحكيم موجوداً. كان الرئيس السادات في اليوم السابق زار سلاح البحرية، وظهرت صورته في "الأهرام" وهو بزي الأميرال. وكعادته في الإضمار علّق محفوظ بلهجة لا تدري معها هل يقصد لفت الانتباه إلى معلومة أم أنه يسخر: "الريس كل ما يزور جماعة يلبس لبسهم. عند البحرية أميرال وعند سلاح الطيران يلبس طيّار، وفي الجامعة روب…" وتصوّرت أنه سيكمل: "وفي الأزهر يلبس عمامة وفي النادي الأهلي يلبس حارس مرمى". لكن محفوظ اكتفى بالتلميح أو ربما بإشعال الفتيل لكي يفجّر توفيق الحكيم النكتة بقوله: "أمال لمّا يزور مؤتمر تنظيم الأسرة ح يلبس إيه؟".
حتى عندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988 لم يسافر إلى السويد. أوفد ابنتيه أم كلثوم وفاطمة لتسلم الجائزة والكاتب محمد سلماوي ليلقي الكلمة نيابة عنه، وقد اختاره لأنه يجيد اللغات الأجنبية. وحدث أن أحد الكتاب المعروفين وهو من مريدي نجيب محفوظ ومن المجموعة المقرّبة منه عاتبه بقوله: "تبعت سلماوي وما تبعتنيش؟ أنا أكتر واحد بيحبك". فما كان من محفوظ إلا أن ردّ بلباقته المعهودة: "شوف يا فلان.. لو الحكاية وقفت على الحب، كنت بعتّ أمي".
اقــرأ أيضاً
وعندما نال الجائزة العالمية باشر حاسدون وانفعاليون إلى ترويج الشائعة التي تقول إن نجيب محفوظ فاز بجائزة نوبل لأنه من أنصار التطبيع مع إسرائيل. وهذا قولٌ ظالم ومنافٍ للحقيقة. فهو أديب كبير وأهم روائي عربي. وثمة من فازوا بالجائزة ذاتها قبله وهم دونه بكثير من حيث القيمة الأدبية. وقبل الجائزة كانت بعض رواياته قد تُرجِمَت إلى لغات أجنبية. آنذاك عرفت اللغة الألمانية ترجمات لثلاثٍ من رواياته. وبعد الجائزة أصبحت معظم رواياته مترجمة وإلى عدد من اللغات العالمية. أخبرتني صاحبة مكتبة في برلين إن رواياته أصبحت من الأكثر رواجاً best seller وسمعت قولاً مشابها في باريس أيضاً، مع ملاحظة مفادها أن ليس كل فائز بجائزة نوبل ترتفع نسبة توزيع كتبه إلى أرقام مذهلة.
في 1989 زرت القاهرة ترافقني زوجتي الألمانية. وهي معجبة بروايات نجيب محفوظ وقرأت كل ما ترجم من أعماله إلى الألمانية. ذات صباح عند السابعة والربع كنا نصعد إلى الدور العلوي في مقهى علي بابا. كان الروائي الكبير في جلسة قراءة الصحف. أسعده أن يسمع أن رواياته تلقى ثناء النقاد الألمان وإقبال القراء عليها. وسألها: كيف وجدت الرواية باللغة الألمانية؟ قالت له "ممتعة. الترجمة موفقة، ما عدا رواية كانت الترجمة جيدة لكن ينقصها شيء". أخبرته إنها تقصد ترجمة "ثرثرة فوق النيل" وقد ترجمها المصري ناجي نجيب. وهي ترجمة أمينة، لكن… لم يدعني أكمل الجملة وعلّق قائلاً: "أكيد أمينة لأنه فهم النص تماماً. وقيل لي إنه يجيد الألمانية. لكن الشيء الناقص أنها ليست لغته الأم".
في روايات محفوظ أثار انتباهي أن الحوار مكتوب باللغة الفصحى حتى عندما يجري على لسان شخصية شعبية. ولم يستغرب أحد بسبب الإتقان في التعبير بصدق عن منطق الشخصية. وقد عبّر المستشرق الألماني هارتموت فاندريش في مؤتمر الترجمة (الدوحة 2018) عن ارتياحه لدى ترجمة روايات محفوظ لأن ورود عاميات في الروايات يربك المترجم فيتحيّر إلى عاميّة أيّ منطقة سيترجم الحوار؟ ولماذا هذه المنطقة بالذات دون سواها؟
ترجمت روايات نجيب محفوظ إلى لغات عديدة، ونشرت بعدة طبعات. واقتُبست رواياته كلها تقريباً للسينما المصرية. أول مؤلفاته كانت مجموعة قصصية "همس الجنون" صدرت سنة 1938. بعدها بعام نشر روايته الأولى "عبث الأقدار" وأحداثها في حقبة مصر الفرعونية. تلتها روايتان "فرعونيتان": "رادوبيس" و"كفاح طيبة" ثم مجموعة الروايات الواقعية: "القاهرة الجديدة"، و"خان الخليلي"، و"زقاق المدق"، و"السراب"، و"بداية ونهاية" التي صدرت سنة 1949. لكن هذه الروايات لم تصبح أفلاما سينمائية إلا بعد سنوات من نشرها. كان صلاح أبو سيف أول من قدم روايات محفوظ في السينما، عندما أخرج "بداية ونهاية" سنة 1960. كما كان أول من تعاون معه بصفة كاتب سيناريو.
أخبرني نجيب محفوظ أن صلاح أبو سيف هو الذي علّمه فن كتابة السيناريو، وقال له إن موهبته الكبيرة في السرد الروائي يمكن أن تُستثمر في كتابة السيناريو. كان ذلك سنة 1947. اشترك نجيب محفوظ مع فؤاد نويرة وصلاح أبو سيف في كتابة سيناريو فيلم "مغامرات عنتر وعبلة" انطلاقاً من قصة كتبها شاعر الأغاني عبد العزيز سلام، أما حوار الفيلم فكتبه الشاعر الغنائي الآخر بيرم التونسي. لكن تنفيذ الفيلم تأخر عاماً وقبله أخرج صلاح أبو سيف فيلم "المنتقم" وقد اشترك معه نجيب محفوظ في كتابة السيناريو.
فيما بعد أصبح نجيب محفوظ كاتب سيناريو محترفاً. كتب 25 فيلماً، ومن بينها عشرة أفلام من إخراج صلاح أبو سيف، من أبرزها: "لك يوم يا ظالم"، و"ريّا وسكينة"، و"الفتوة"، و"الوحش"، و"مجرم في إجازة". ومن بينها ثلاثة أفلام من إخراج عاطف سالم: "جعلوني مجرماً"، و"النمرود"، و"إحنا التلامذة"، الذي شاركه فيه بالكتابة صديقه الحرفوش توفيق صالح. ونجيب محفوظ هو كاتب سيناريو فيلم "درب المهابيل" (1955) أول أفلام المخرج توفيق صالح. وآخر تعاون فني بينهما برغم صداقة العمر. وكان توفيق صالح اشترى من صديقه حقوق تحويل روايته "يوم قتل الزعيم" إلى فيلم سينمائي، ومات من دون أن يتمكن من إنجاز فيلمه.
برغم أن نجيب محفوظ كتب السيناريو لخمسة وعشرين فيلماً، غير أنه لم يكتب سيناريو واحداً لفيلمٍ مقتبس من إحدى رواياته. كل رواياته عندما أصبحت أفلاماً صاغ لها السيناريو والحوار كتابٌ آخرون. لكنه كتب السيناريو لأفلام مقتبسة من مؤلفات روائيين آخرين، ومنها ثلاثة سيناريوهات عن روايات لإحسان عبد القدوس: "الطريق المسدود" و"أنا حرّة" (كلاهما من إخراج صلاح أبوسيف)، و"بئر الحرمان" (إخراج كمال الشيخ).
ولم يعلّق نجيب محفوظ مرّة على الأفلام المقتبسة من رواياته. يقول "إن مهمتي تنتهي عند نشر الرواية في كتاب. الكتاب هو المُعَبّر عني. أما الأفلام فهي تعبّر عن المخرج وكاتب السيناريو ولديهما الرؤية السينمائية الخاصة. الفيلم فيلمهم. والرواية روايتي". وهذا القول يعبّر تماماً عن طبيعته المتحفظة.
أخبرني نجيب محفوظ أن الكتابة اليومية مهمة لديه مثل ممارسة الرياضة لتقوية العضلات. قال "حتى لو لم يسعفني الإلهام في عمل روائي قيد الإنجاز، فإنني أنشغل بكتابة الرسائل". أما الوظيفة فهي مقدّسة. عمل في وزارة الأوقاف، ثم في وزارة الثقافة وكان مدير الرقابة على المصنفات الفنيّة، ثم أصبح من أركان مؤسسة السينما، تارة هو مدير عام وتارة رئيس مجلس الإدارة. إلى أن استقر به المقام الوظيفي كاتباً متفرغاً لدى جريدة "الأهرام". واستمر موظفاً حتى بعد بلوغه السنّ القانونية للتقاعد. وكانت خبرته الوظيفية المادة الخام لروايته "حضرة المحترم" وفيها التحليل الرائع لشخصية الموظف التقليدي.
وارتبط نجيب محفوظ بشلّة الحرافيش التي تجتمع مساء كل خميس، وتضم أدباء وفنانين منهم الممثل أحمد مظهر الذي قدمني إليه حين أخبرته أنه كاتبي المفضّل. كما واظب محفوظ على الحضور إلى مقهى "ريش" عصر كل يوم جمعة يستقبل الطلبة والكتّاب الشباب. حضرت إحدى هذه الجلسات في ربيع 1972. كان الشباب يحاورونه في موضوع العلاقات مع إسرائيل. وما زلت أذكر جيداً رأي نجيب محفوظ. قال: "نحن لم نخسر حرب 1967 عسكرياً فحسب، بل حضارياً أيضاً. أنا أقترح أن ندخل مرحلة لا حرب ولا سلم نبني خلالها أنفسنا لكي نكون مهيئين للحرب. يجب أن ننهض بالبنى التحتية ونوفر الخبز والدواء والعدالة للجميع. الجندي المريض أو الأمي أو المقموع لا يربح حرباً".
وفي 1978 استقبل نجيب محفوظ وفداً إسرائيلياً كان يزور القاهرة. واستقبل بعد ذلك أدباء وأساتذة إسرائيليين من الذين قرأوا أعماله المترجمة إلى العبرية. آنذاك تعرّض محفوظ لحملة عنيفة بسبب التطبيع مع العدو. كنتُ وقتها في الكويت وأطلعتني الإعلامية المصرية عايدة شريف (عملت مع محفوظ سابقاً في مؤسسة السينما) على رسالة تلقتها منه، عبّر فيها عن ألمه من الحملة القاسية عليه. اعترف أنه أخطأ لكنه لم يخن البلاد ولا القضية. وقال إن مكتب الرئيس أنور السادات اتصل به ونقل إليه رغبة "الريّس" في استقبال الوفد. (من يعرف محفوظ جيداً يدرك أن الموظف المحترم سيعتبر رغبة الرئيس أمراً). وبعد سنوات وخلال لقاء في القاهرة سألته عن ترجماته إلى العبرية وقيل إنه تقاضى عنها مكافأة مجزية، فأجاب: "ولا مليم. أصلاً الروايات دي تُرجمت أيام الحرب من دون إذني ولا معرفتي. بعدين مين اللي لازم يزعل؟ المفروض إن السلطات الإسرائيلية هي اللي تمنع ترجمة ثقافتنا وتعتّم عليها". وردد بيت أبي نؤاس: "تعجبين من سقمي؟ صحتي هي العجب".
في حياته المديدة (عاش 95 عاماً) لم يسافر نجيب محفوظ خارج مصر إلا ثلاث مرّات، منها مرّتان "تلبية لرغبة الريّس" جمال عبد الناصر، والثالثة بقصد العلاج. هو في الرحلات الثلاث مرغم. الأولى صيف 1959 أيام الوحدة مع سورية، سافر إلى يوغوسلافيا بلد الرئيس تيتو صديق عبد الناصر، مع وفد ضم أدباء مصريين وسوريين. والثانية عام 1962 إلى اليمن لزيارة الجنود المصريين هناك. والثالثة إلى لندن 1989 لإجراء جراحة في القلب. غير ذلك لم يغادر القاهرة إلا إلى الإسكندرية في فصل الصيف.
يومياً قبل الظهر يجالس صديقه الحميم توفيق الحكيم في المقهى المطل على كورنيش البحر. وكان الاثنان يتقاسمان غرفة المكتب في مبنى صحيفة "الأهرام" في القاهرة. ومرة ذهبت لزيارة نجيب محفوظ في مكتبه وكان توفيق الحكيم موجوداً. كان الرئيس السادات في اليوم السابق زار سلاح البحرية، وظهرت صورته في "الأهرام" وهو بزي الأميرال. وكعادته في الإضمار علّق محفوظ بلهجة لا تدري معها هل يقصد لفت الانتباه إلى معلومة أم أنه يسخر: "الريس كل ما يزور جماعة يلبس لبسهم. عند البحرية أميرال وعند سلاح الطيران يلبس طيّار، وفي الجامعة روب…" وتصوّرت أنه سيكمل: "وفي الأزهر يلبس عمامة وفي النادي الأهلي يلبس حارس مرمى". لكن محفوظ اكتفى بالتلميح أو ربما بإشعال الفتيل لكي يفجّر توفيق الحكيم النكتة بقوله: "أمال لمّا يزور مؤتمر تنظيم الأسرة ح يلبس إيه؟".
حتى عندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988 لم يسافر إلى السويد. أوفد ابنتيه أم كلثوم وفاطمة لتسلم الجائزة والكاتب محمد سلماوي ليلقي الكلمة نيابة عنه، وقد اختاره لأنه يجيد اللغات الأجنبية. وحدث أن أحد الكتاب المعروفين وهو من مريدي نجيب محفوظ ومن المجموعة المقرّبة منه عاتبه بقوله: "تبعت سلماوي وما تبعتنيش؟ أنا أكتر واحد بيحبك". فما كان من محفوظ إلا أن ردّ بلباقته المعهودة: "شوف يا فلان.. لو الحكاية وقفت على الحب، كنت بعتّ أمي".
وعندما نال الجائزة العالمية باشر حاسدون وانفعاليون إلى ترويج الشائعة التي تقول إن نجيب محفوظ فاز بجائزة نوبل لأنه من أنصار التطبيع مع إسرائيل. وهذا قولٌ ظالم ومنافٍ للحقيقة. فهو أديب كبير وأهم روائي عربي. وثمة من فازوا بالجائزة ذاتها قبله وهم دونه بكثير من حيث القيمة الأدبية. وقبل الجائزة كانت بعض رواياته قد تُرجِمَت إلى لغات أجنبية. آنذاك عرفت اللغة الألمانية ترجمات لثلاثٍ من رواياته. وبعد الجائزة أصبحت معظم رواياته مترجمة وإلى عدد من اللغات العالمية. أخبرتني صاحبة مكتبة في برلين إن رواياته أصبحت من الأكثر رواجاً best seller وسمعت قولاً مشابها في باريس أيضاً، مع ملاحظة مفادها أن ليس كل فائز بجائزة نوبل ترتفع نسبة توزيع كتبه إلى أرقام مذهلة.
في 1989 زرت القاهرة ترافقني زوجتي الألمانية. وهي معجبة بروايات نجيب محفوظ وقرأت كل ما ترجم من أعماله إلى الألمانية. ذات صباح عند السابعة والربع كنا نصعد إلى الدور العلوي في مقهى علي بابا. كان الروائي الكبير في جلسة قراءة الصحف. أسعده أن يسمع أن رواياته تلقى ثناء النقاد الألمان وإقبال القراء عليها. وسألها: كيف وجدت الرواية باللغة الألمانية؟ قالت له "ممتعة. الترجمة موفقة، ما عدا رواية كانت الترجمة جيدة لكن ينقصها شيء". أخبرته إنها تقصد ترجمة "ثرثرة فوق النيل" وقد ترجمها المصري ناجي نجيب. وهي ترجمة أمينة، لكن… لم يدعني أكمل الجملة وعلّق قائلاً: "أكيد أمينة لأنه فهم النص تماماً. وقيل لي إنه يجيد الألمانية. لكن الشيء الناقص أنها ليست لغته الأم".
في روايات محفوظ أثار انتباهي أن الحوار مكتوب باللغة الفصحى حتى عندما يجري على لسان شخصية شعبية. ولم يستغرب أحد بسبب الإتقان في التعبير بصدق عن منطق الشخصية. وقد عبّر المستشرق الألماني هارتموت فاندريش في مؤتمر الترجمة (الدوحة 2018) عن ارتياحه لدى ترجمة روايات محفوظ لأن ورود عاميات في الروايات يربك المترجم فيتحيّر إلى عاميّة أيّ منطقة سيترجم الحوار؟ ولماذا هذه المنطقة بالذات دون سواها؟
ترجمت روايات نجيب محفوظ إلى لغات عديدة، ونشرت بعدة طبعات. واقتُبست رواياته كلها تقريباً للسينما المصرية. أول مؤلفاته كانت مجموعة قصصية "همس الجنون" صدرت سنة 1938. بعدها بعام نشر روايته الأولى "عبث الأقدار" وأحداثها في حقبة مصر الفرعونية. تلتها روايتان "فرعونيتان": "رادوبيس" و"كفاح طيبة" ثم مجموعة الروايات الواقعية: "القاهرة الجديدة"، و"خان الخليلي"، و"زقاق المدق"، و"السراب"، و"بداية ونهاية" التي صدرت سنة 1949. لكن هذه الروايات لم تصبح أفلاما سينمائية إلا بعد سنوات من نشرها. كان صلاح أبو سيف أول من قدم روايات محفوظ في السينما، عندما أخرج "بداية ونهاية" سنة 1960. كما كان أول من تعاون معه بصفة كاتب سيناريو.
أخبرني نجيب محفوظ أن صلاح أبو سيف هو الذي علّمه فن كتابة السيناريو، وقال له إن موهبته الكبيرة في السرد الروائي يمكن أن تُستثمر في كتابة السيناريو. كان ذلك سنة 1947. اشترك نجيب محفوظ مع فؤاد نويرة وصلاح أبو سيف في كتابة سيناريو فيلم "مغامرات عنتر وعبلة" انطلاقاً من قصة كتبها شاعر الأغاني عبد العزيز سلام، أما حوار الفيلم فكتبه الشاعر الغنائي الآخر بيرم التونسي. لكن تنفيذ الفيلم تأخر عاماً وقبله أخرج صلاح أبو سيف فيلم "المنتقم" وقد اشترك معه نجيب محفوظ في كتابة السيناريو.
فيما بعد أصبح نجيب محفوظ كاتب سيناريو محترفاً. كتب 25 فيلماً، ومن بينها عشرة أفلام من إخراج صلاح أبو سيف، من أبرزها: "لك يوم يا ظالم"، و"ريّا وسكينة"، و"الفتوة"، و"الوحش"، و"مجرم في إجازة". ومن بينها ثلاثة أفلام من إخراج عاطف سالم: "جعلوني مجرماً"، و"النمرود"، و"إحنا التلامذة"، الذي شاركه فيه بالكتابة صديقه الحرفوش توفيق صالح. ونجيب محفوظ هو كاتب سيناريو فيلم "درب المهابيل" (1955) أول أفلام المخرج توفيق صالح. وآخر تعاون فني بينهما برغم صداقة العمر. وكان توفيق صالح اشترى من صديقه حقوق تحويل روايته "يوم قتل الزعيم" إلى فيلم سينمائي، ومات من دون أن يتمكن من إنجاز فيلمه.
برغم أن نجيب محفوظ كتب السيناريو لخمسة وعشرين فيلماً، غير أنه لم يكتب سيناريو واحداً لفيلمٍ مقتبس من إحدى رواياته. كل رواياته عندما أصبحت أفلاماً صاغ لها السيناريو والحوار كتابٌ آخرون. لكنه كتب السيناريو لأفلام مقتبسة من مؤلفات روائيين آخرين، ومنها ثلاثة سيناريوهات عن روايات لإحسان عبد القدوس: "الطريق المسدود" و"أنا حرّة" (كلاهما من إخراج صلاح أبوسيف)، و"بئر الحرمان" (إخراج كمال الشيخ).
ولم يعلّق نجيب محفوظ مرّة على الأفلام المقتبسة من رواياته. يقول "إن مهمتي تنتهي عند نشر الرواية في كتاب. الكتاب هو المُعَبّر عني. أما الأفلام فهي تعبّر عن المخرج وكاتب السيناريو ولديهما الرؤية السينمائية الخاصة. الفيلم فيلمهم. والرواية روايتي". وهذا القول يعبّر تماماً عن طبيعته المتحفظة.