درس من معركة عين العرب

15 أكتوبر 2014
+ الخط -

ليست معركة عين العرب (كوباني) مجرد معركة بين المقاتلين الكرد وتنظيم داعش، للسيطرة على المدينة الصغيرة الواقعة على كتف الحدود السورية التركية، بقدر ما حملت معها دلالات إقليمية ودولية، في إطار صراع الأولويات ورسم المشاريع والخرائط المتدفقة من رحم الأزمة السورية. الأكراد الذين دافعوا عن مدينتهم ببسالة يحسون، في العمق، بخيبة أمل كبيرة من الجميع، فتركيا الدولة الجارة والقوية، والتي أوحت مرارا بأنها ستتدخل لمنع سقوط المدينة لم تتحرك، وظلت طائراتها ودباباتها تراقب بدقة كل خطوة وتفصيل وحركة، طوال الأسابيع الماضية. الولايات المتحدة التي تتزعم التحالف الدولي قالت، صراحة، إن كوباني ليست لها قيمة استراتيجية. النظام السوري الذي يقال إن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي حليف له لم يتخذ أي إجراء عملي، لكي لا تسقط المدينة. الدول الأخرى ظلت تحذر من وقوع مجازر ضد أهل المدينة، على غرار ما ارتكبه التنظيم في سنجار في شمال العراق، من دون أن تتحرك عملياً. وعليه، واصل داعش زحفه إلى المدينة، غير مكترث بغارات التحالف المتقطعة، والتي بدت من دون فعالية، حتى أصبحت المدينة عملياً تحت سيطرة التنظيم.

ما حصل في كوباني عكس معادلات كثيرة قائمة في أجندة الدول وحروبها الناعمة وأولوياتها وحساباتها. بالنسبة للغرب، وتحديدا الولايات المتحدة، كان تكريسا لسياسة المصالح والازدواجية في النظر إلى الأكراد، وتتجلى الازدواجية الأميركية هذه في كيفية النظر إلى القضية الكردية، وهي تتراوح بين إظهار العطف الإنساني والمبادرة إلى تقديم المساعدة والدعم لأكراد العراق، كلما لاح خطر عليهم، أو أزمة إنسانية تهددهم في مقابل سياسة اللامبالاة تجاه أكراد سورية وإيران وتركيا، على شكل ترك هؤلاء لأقدارهم ومصائرهم، والتي، غالباً، ما تكون دموية. تركيا الدولة التي توجهت إليها الأنظار تعاملت، هي الأخرى، مع أزمة كوباني من زاوية مصالحها وأجندتها الخاصة، وهي تعاملت مع هذه الأزمة على ثلاثة مستويات.

استقبال آلاف النازحين من زاوية إنسانية. التأهب الأمني لحماية حدودها والتعامل مع أي طارئ يهددها. استثمار هذه الأزمة لإقناع واشنطن القبول بأجندتها التي تتراوح بين إسقاط النظام السوري ومنع تشكيل كيان كردي على حدودها السورية، وما الإصرار على إقامة منطقة عازلة إلا تعبير عن رؤية عملية، لتحقيق الأجندة المذكورة، في إطار رؤية شاملة للأزمة، خلافا للرؤية الأميركية التي تبدو مرتبكة، وغير واضحة.

وعليه، يمكن القول إن معركة كوباني، منذ البداية، لم تكن معركة على رقعة جغرافية محددة، بقدر ما كانت معركة إرادات ومشاريع. بالنسبة للكرد، كانت معركة وجود وتطلع إلى الحقوق المستقبلية، فيما بالنسبة لداعش كانت معركة توسيع حدود دولة الخلافة التي أعلنها. وعلى المستوى الدولي، لم تكن بالنسبة لأميركا سوى مواجهة هامشية، هدفها عدم السماح لداعش بامتلاك المزيد من عناصر القوة والمساحة الجغرافية والتوسع وجذب المقاتلين. وبالنسبة لتركيا، كانت معركة تأكيد دور الجغرافية والقدرة على رسم خرائط ومصائر، وإن لكل شيء ثمن في السياسة. وعليه، يمكن القول إن سيطرة داعش على كوباني ستكون لها تداعيات على الجميع، ولا سيما الأكراد الذين سيخسرون واحدةً من المقاطعات الثلاث التي أعلنوها، وستصبح مناطقهم مقطوعة الأوصال جغرافياً، فضلا عن خسارة معنوية كبيرة، نظرا لأن المدينة كانت لها مكانة رمزية كبيرة، إذ لجأ إليها الزعيم الكردي، عبدالله أوجلان، عندما هرب من تركيا عام 1979، فضلا عن أنها مسقط رأس زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، صالح مسلم، وينتمي إليها قادة كرد عديدون.

بالنسبة لداعش، ستحقق السيطرة على كوباني ميزة جغرافية استراتيجية كبيرة، إذ، للمرة الأولى، سيسيطر التنظيم بالكامل على منطقة جغرافية، تمتد من الحدود السورية التركية شمالاً إلى مشارف بغداد جنوباً، وستصبح محافظة الحسكة السورية ذات الأغلبية الكردية محاصرة وربما هدفاً مباشراً للتنظيم في المرحلة المقبلة.

ولن تكون تركيا نفسها في منأى عن تداعيات سيطرة داعش على كوباني، إذ ستجد نفسها، للمرة الأولى، على تماس مباشر مع حدود دولة الخلافة التي لها طموحات لا تنتهي، ما يعني إمكانية أو احتمال انتقال المواجهة إلى الداخل التركي، خصوصاً في ظل تقارير عن إنشاء التنظيم خلايا نائمة داخل مدن تركية عدة، ووجود نحو خمسة آلاف تركي انضموا إلى التنظيم، ويقاتلون في صفوفه، كما أن عملية السلام الكردية – التركية قد تكون من أول ضحايا خسارة كوباني، في ظل موجة الغضب الكردي، احتجاجا على الموقف التركي، وتحول هذا الغضب إلى أعمال عنف، وسط تهديدات كردية وتركية بوضع نهاية للعملية السلمية.

في الواقع، يكشف ما حصل في كوباني عوامل الخلل في استراتيجية التحالف الدولي ضد داعش، فهناك حرب أولويات من الأطراف المشاركة في هذه الحرب، وهناك شكوك عميقة بين هذه الأطراف، وما اتهامات نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، للسعودية والإمارات وتركيا بدعم الجماعات المسلحة، على الرغم من اعتذاره، إلا تعبير عن عدم الثقة بين هذه الأطراف. ولكي لا تقع مدن أخرى عديدة، على غرار كوباني - عين العرب، ضحية لتضارب الأجندة الإقليمية والدولية، ينبغي على التحالف البحث في استراتيجية واضحة وشاملة، لمعالجة مجمل أزمة المنطقة، قبل أن يقع الجميع في مستنقعٍ، لا أحد يعرف كيفية الخروج منه.

55B32DF5-2B8C-42C0-ACB3-AA60C835F456
خورشيد دلي

كاتب سوري، عمل في قنوات تلفزيونية، صدر له في 1999 كتاب "تركيا وقضايا السياسة الخارجية"، نشر دراسات ومقالات عديدة في عدة دوريات وصحف ومواقع إلكترونية.