درس جاهلي (4)

02 يونيو 2019
+ الخط -
في ليلة انمحق قمرها واختنق نسيمها، جلس يطالع مواقع النجوم، ويغالب ما يجد من ضيق الصدر ومرارة الأحداث. بينما يرتدي الدمقس والحرير، ويرفل في ألوان النعيم، لكن حرائق الفكر أتت على أعصابه دفعة واحدة؛ فما قيمة أن يتنعَّم وأهله مستهدفون؟ وأين شعارات القومية الرنانة التي يسكبها في آذان أبنائه؟ لحظة فارقة في عمره وحياة قومه، والوقت لن يداهنه طويلًا؛ فإما يتخذ موقفًا يناصر أهله، وإما أن يتركهم لمصيرهم المحتوم.

فجأة، خلع الدمقس ورماه على الأرض، وجلس القرفصاء وردد مع بدر شاكر السياب (الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام/ حتى الظلام هناك أجمل)، ومع ارتفاع هرمونات القومية والعروبة، أمسك قلمه وقرر أن يتمسك بموقف إيجابي وإن لم يؤخذ بقوله؛ فعليه أن يسعى وليس عليه إدراك النجاح. تحت يديه معلومات خطيرة، أسرار تمس الدولة التي يعمل بها، وإن كُشف أمره فسيُحاكم بتهمة الخيانة العظمى، ومع ذلك أصر أن ينجد قومه ولو على حساب نفسه؛ فشعاره (وأهلي وإن جاروا عليَّ كرام)، وما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط؛ فمن يكون هذا الرجل؟ وما سبب الصراع الذي غالبه؟ وما ترتب عليه؟

هذا لقيط بن يعمر بن خارجة الإيادي، الشاعر الجاهلي الفحل، من أصحاب القصائد اليتيمة، وهو صاحب العينية الفريدة والأولى من نوعها، بالإضافة إلى قدراته اللسانية والخطابية القوية، وكيف لا هو ينتمي إلى قبيلة إياد؟! وإياد قبيلة عربية يمنية كانت تدين بالنصرانية، هاجرت إلى العراق وعاشت في الحيرة بين دجلة والفرات وبلدة الأُبُلة، وعن إياد يقول أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: "ولإياد وتميم في الخطب خصلة ليست لأحد من العرب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي روى كلام قُسَّ بن ساعدة وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته".


يومها كانت الحيرة تحت الحماية الفارسية، ويعيّن ملك الحيرة بفرمان من كسرى فارس، وأثار نزول إياد الحيرة الكثير من التوترات الأمنية والجيوسياسية في المنطقة، وحاولت فارس بغير طريقة أن تستوعب إياد وتخضِّد شوكتها؛ فاللين تارة والتهديد أخرى والتلويح بعقوبات اقتصادية ثالثة، وإرسال الجيوش أخرى والهدف واحد، لكنما أبقت فارس على خيط رفيع من الدبلوماسية بين الجانبية، ومن ذلك سماحها للعرب بالعمل في فارس، واستقطابهم من خلال القوة الناعمة.

يومها، كان المستوى المعيشي والاقتصادي في فارس أعلى شأنًا وأرفع شأوًا منه في الحيرة؛ فالتمس كثير من الشباب السفر إلى فارس، ومن هؤلاء لقيط الإيادي. جهز لقيط نفسه لهذه المهمة بإتقان الفارسية، وحضر دورات تدريبية في تعليم الفارسية، وأتقن الترجمة من العربية للفارسية والعكس، وتعلم كذلك الكتابة العربية؛ فساعدته سيرته الذاتية على دخول بلاط كسرى، وعمل مترجمًا ثم كبير مترجمين - يفوق مراتٍ ومرات موفَّق فائق توفيق كبير مترجمي الجزيرة - ويضارعه ممن لحقوه موسى بن سيار الأسواري.

وفي حديثه عن موسى بن سيار، يقول الجاحظ: "إنه كان من أعاجيب الدنيا، وكانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور به؛ فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره؛ فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحوِّل وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية؛ فلا يدري بأي لسان هو أبين" ثم يعلِّق الجاحظ قائلًا: "واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها".
المهم أن لقيط الإيادي ملك زمام اللغتين، وتمكن من أدواتهما بالقدر الذي أتاح له اكتساب الثقة في بلاط كسرى، وأصاب مكانة سامقة في عقر دار الفرس، لكن العربي الأصيل لا يتفلَّت من تبعاته، ويؤمن إيمانًا مقدسًا بسيادة قبيلته على من سواها، وبعزة العرب وإبائهم وإن تجرعوا الغصص. لم تكن المناوشات بين فارس والعرب حادثًا طارئًا؛ فالمناوشات لا نهاية لها بين الحضارتين، وكلُّ يرى في خصمه السُّمَ الزُّعاف، ولعلَّك تظن أن في الأمر مبالغة؛ فلتقف بنفسك على ما كان بين كسرى والنعمان بن المنذر، ولن أطلعك على ما يجري اليوم في مكة المكرمة؛ فإنك أعلم به مني.

روى ابن عبد ربه في العقد الفريد أن النعمان بن المنذر ملك الحيرة وفد على كسرى، وعنده وفود الروم والهند والصين؛ فانبرى كسرى يعدِّدُ مفاخر الأمم الأخرى ويتنقَّصُ العرب ويسلبهم مكانتهم ويغمطهم حقهم؛ فردَّ عليه النعمان وتوترت الأجواء، ولما رجع النعمان إلى الحيرة أرسل وفدًا رفيع المستوى ليبرهن لكسرى على وجاهة العرب وقوتهم الفكرية والثقافية والأدبية والاجتماعية، وترأس حكيم العرب الكبير أكثم بن صيفي التميمي الوفد، وصاحبه في الرحلة حاجب بن زرارة التميمي والحارث بن عباد البكري، وقيس بن مسعود البكري، وعلقمة بن علاثة العامري، وعامر بن الطفيل العامري، وعمرو بن الشريد السلمي، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي والحارث بن ظالم المري.

إذن المنطقة تعيش احتقانًا مزمنًا، والعلاقات بين الفرس والعرب على صفيح ساخن، لم تعرف العلاقة بينهما هدوءًا طويل الأمد مطلقًا، وما يعنينا الآن تسليط الضوء على موقف لقيط الإيادي؛ فبعدما استشعر الفرس خطر إياد في المنطقة، اجتمع كسرى بوزراء الحرب والخارجية والأمن العام؛ واتخذ قرار الحرب لتأديب إياد وجعلها عبرة لمن يعتبر. يعيش لقيط الإيادي في المطبخ السياسي الفارسي، واستوثق من تحركات الفرس ونياتهم الجادة تجاه إياد؛ فوجد الرجل نفسه بين نارين.

هل يغض الطرف ويترك إياد لمصيرها المحتمل؟ أم يغامر بالحياة الرخية التي يعيشها ويتمرد على البروتوكولات ويحذر قومه؟ وبعد تنازع طويل وحديث نفسٍ تجاذبه لمصائر شتى، خلع لقيط ثوب الخوف وارتدى عباءة القومية، وقرر أن يوقظ العرب من سباتهم الطويل، وأن يرمي بحجر في المياه الراكدة. كتب لقيط إلى قومه أربعة أبيات شعرية، هي (سلامٌ في الصحيفةِ من لقيطٍ/ إلى من بالجزيرةِ من إيادِ/ بأنَّ الليث كسرى قد أتاكم/ فلا يشغلكم سوقُ النِّقَادِ/ أتاكم منهم ستون ألفًا/ يزِّجونَ الكتائِبَ كالجرادِ/ على حَنَقٍ أتيناكم فهذا/ أوانُ هلاكِكُم كهلاكِ عادِ).
وتلحظ أن الأبيات مباشرة صريحة غاب عنها الغموض، ولا تحتاج لتأويل ولا تحتمل غير هدف واحد، ومع ذلك لم تأبه إياد بتحذير لقيط، وضربت بقوله عرض الحائط، كأنما قد أمنت غدر كسرى ونامت ملء عينها! والمثقف لا ييأس من الوضع القائم، ويسعى حثيثًا لإيقاظ الهمم وتوجيه الرأي العام؛ فكان أن كتب لقيط قصيدته المتفرِّدة، القصيدة العينية الأولى من نوعها في الشعر العربي، ووجه تفرِّدها أنها أول قصيدة كتبت بغرض التحذير والتنبيه، وهي قصيدة سياسية بامتياز تدخل في إطار الشعر السياسي القومي، ولخطورة ما حملته تلك القصيدة؛ فقد نُسِجَت حولها أساطير عدة.

قيل إن لقيط كتبها على شيء لا يلفت النظر كحدوج الجمال المسافرة، وقيل كتبها وأرسلها في رسالة لا تثير الشكوك والشبهات، وقيل إنه خشي على نفسه بطش المخابرات الفارسية (السافاك)؛ فاحتاط واحتال لنفسه احتيالًا لطيفًا، وقال آخرون إنه سار بجيش كسرى ليدلهم على الطريق، ولم يكن "أبو رغال" الفرس؛ فتوَّه بالجيش في صحراء الإهالة، حتى ضعف الجيش ووهنت قواه.

بعد أن وصلت القصيدة ديار إياد وأخذوا حذرهم، لم يعدم لقيط من يجازيه جزاء سنمار؛ فوقعت القصيدة في يد من أوصلها إلى كسرى، وثارت ثائرة الفرس فقطعوا لسان لقيط، ثم قتلوه على أغلب الأقوال، وإن كان ابن الشجري قد انفرد بأن كسرى قطع لسان لقيط بن يعمر وغزا إياد وخلَّع أكتافهم؛ فلقّب بـ"كسرى سابور" أي ذي الأكتاف.

ذهبت صرخة لقيط بن يعمر أدراج الرياح، وخسر حياته سنة 380 ميلادية لقاء إيقاظ قومه، ودفع حياته قربانًا لتعيش العرب، وبعد قرون من مقتله ترتعد فرائص العرب من فارس، وتستجير من الرمضاء بالنار.
دلالات