دربٌ منير

29 سبتمبر 2015
لوحة للفنان الإسباني فرانشيسكو دي غويا (Getty)
+ الخط -
"أوّل من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها، ولا انسبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه"، هذا ما كتبه ابن خلدون في مقدّمته الشهيرة، عن أجمل زجّال : ابن قزمان، الذي كتب الموشّح وأبدع زجليّات يحف بها التزواج الرقيق بين اللغة العربية واللغة الإسبانية الوسيطة؛ لغة الرومانث. ففي أزجاله، التي تشبه في شكلها قليلًا شكل الموشح، ثمة ذاك الشطر الشعري الذي يقفل الفقرات؛ هو الخرجة. خرجة ابن الزجال جاءت في أحايين كثيرة، رومانثية، معبّرة عمّا كانت عليه أندلس الأمس وإسبانيا اليوم من تماهٍ يشفّ عن نسيج مجتمعي لـ "طوائف" و"أعراق" متعددة.
ها هنا لم يجترح الباحثون الأوروبيون لفظين بغيضين : "أقلية" و"طوائف" (تركوهما لأيامنا هذه)، بل أرادوا من خلال تلك الخرجة الأعجمية، ابتداع شيء صلب موحد مشترك، ينسجم مع نظرتهم إلى أنفسهم. أمرٌ متفرّع من نظرية المركزية الأوروبية، حيث توّحد الحضارة الأوروبية نفسها ثقافةً وتاريخًا، ضمن سلسلة لا انقطاع فيها على الإطلاق، ولا فضل فيها ولا مساهمات لأي كان. كذا كان الميل لإنكار الأثر العربي في ثقافتهم "الأدبية". قال الأوروبيون إن الخرجة الأجمعية، ليست إلا دليلاً على وجود شعر أوروبي قديم، لكنه مفقود. وهذا المفقود ليس إلا أباً لشعر التروبادور، ذاك الذي سيتطور ومنه تُجترح أجمل الأشكال الشعرية الغربية : السونيت.
فلا علاقة على الإطلاق بين السونيت والموشح العربي في ظنّهم. تلقفوا أزجال ابن قزمان وخرجاتها الأعجمية، لاغين في الوقت عينه كلّ سياق لقائلها؛ منبته، ثقافته، رقّته وإبداعه، ظانين أن ثمة نظرية "صحيحة" في اختراع ما تفترضه ضائعًا، فتسبغ عليه وجودًا. أيأتي الإبداع من أصل مفترض مخترع، وتكون الحجّة أنه ضائع مفقود؟.
بلى ثمة شيء ضائع ومفقود، ليس شعرًا بل ترجمة. ترجمة لا بالمعنى القاموسي، بل المجازي، الذي يتيح للباحث ترجمة الماضي في سياقه، من دون إسقاط قسري للحاضر عليه. كذا فكّك بعض الباحثين الأوروبيين كماريا روزا مينوكال وبعض العرب، مثل عبد الواحد لؤلؤة، ظلال تلك النظرية التي تدور في فلك الأفكار التكوينية، التي تقول بخصوصية أوروبا وتفوّقها، وردوا قليلًا من الاعتبار إلى صورتنا في أندلس الماضي والحنين.

اقرأ أيضاً: إذا أردتِ يا غرناطة بك سأتزوّج

إلا أن ضياع شيء في الترجمة، أو كسراً، ولو كان طفيفًا، لظلال المعاني، كانا على ما يبدو ماثلَيْن أمام عيني ضيف ملحق الثقافة لهذا العدد، الفلسطيني محمود صبح، في كلّ مقالٍ بحثي وكلّ كتاب وكلّ ترجمة.
تنازعت هذا العالم الجليل، لغتان اثنتان ؛ اللغة العربية واللغة الإسبانية. ولئن كان يسم لغة الضاد بـ "الأم المقدّسة" ويضفي على الاقتراب منها رهبةً واحترامًا، فإنه يحتفظ للغة الإسبانية برتبة الحبّ، فهي "المعشوقة". وقد غنمت تلك المعشوقة، كتبًا أزيد مما غنتمه لغة الضاد. من الجميل أننا في لغتنا غنمنا من المترجم القدير والباحث الدؤوب مذكرات الشاعر بابلو نيرودا، "أشهد بأنني قد عشت" ومختارات شعرية له أيضًا، وغيرها. في الظلّ لا في الضوء يشعّ العمل الجليل، إذ إن نوره يأتي من الصنيع المكين.
كان الإسبان حتّى وقتٍ قريبٍ يعدّون ديوان ابن قزمان، جزءاً من تراثهم الأدبي، إلا أن جهود بحّاثة عرب، على رأسهم المصريان الراحلان، عبد العزيز الأهواني ومحمود علي مكي، أدّت إلى "استعادة" ابن قزمان إلينا، وجلت الأمور، حال أدركت سياق المجتمع الأندلسي، وذاك الزواج بين الرومانثية والعامية العربية في أزجال ابن قزمان.
حُقق الديوان عن نسخة وحيدة. مخطوطٌ واحدٌ فحسب، وجد طريقه، رغم التعرّج، من صفد الفلسطينية إلى إسبانيا، حيثُ طبع للمرّة الأولى عام 1933، وحققه ألوا ريتشارد نيكل.
القصّة كلّها هنا، فالمصادفة وحدتها شاءت أن يسير محمود صبح على خطى الديوان الملتبس بين لغتين، فقد ولُد صبح في صفد وتعرّجت به الأيام حتّى وصل إلى إسبانيا.
كرّس الفلسطيني نفسه للتدريس والبحث والترجمة، ولم يتوقّف رغم "وحشة الطريق"، لكأن إحدى زجليّات ابن قزمان تنير دربه : "أنّا نكن لك شقيق / يا من بُلى بيّ/ إن خفت وحش الطريق/ انظر لعينيّ".
ورغم "وحشة الطريق"، وجدت الزجليّات والموشحات، ذات الرنين المقفّى العذب، دربها مع الشعراء التروبادور الجوالين، وتآخت وامتزجت بالعامية اللاتينية التي كانت سائدة في إيطاليا، وأثّرت في أحد أهم شعرائها، دانتي، قبل أن تذهب صوب السونيت. الشكل الشعري المتشابه بين السونيت والزجليات والموشحات كان موضوعَ غير ما كتاب بحثي، إلا أن مضمون "غنائية" واحدة، وهو التعبير الذي يستعمله عبد الواحد لؤلؤة في كتابه "دور العرب في تطوّر الشعر الأوروبي"، لوصف أوائل السونيت، كتبها فريدريك الثاني ملك صقلية، تكفي ربّما لتبديد فرضية "الضائع والمفقود"؛ "أيتها الأغنية البهيجة/ اذهبي إلى زهرة سورية/ إلى تلك التي أطبقت السجن على قلبي".
المساهمون