دبلوماسية البلطجة الأميركية

31 ديسمبر 2017
+ الخط -
بدأ مشهد دبلوماسية البلطجة الأميركي أولا بتصريح الرئيس، دونالد ترامب، عن نقل سفارة بلاده في تل أبيب إلى القدس المحتلة، لينتهي بفضيحة مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، التي تبجحت، وقالت إنها ستسجل أسماء الدول التي ستصوت ضد القرار الأميركي، لمعاقبتها وقطع المساعدات عنها. وعلى الرغم من أن أروقة المؤسسة الدولية التي سمّاها الجنرال شارل ديغول machin، أي الشيء، قد مرت بأحداث يذكرها التاريخ، بسبب الوضع السياسي العالمي، كما في الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والاتحاد السوفيتي التي دفعت الرئيس نيكيتا خروتشوف إلى رفع حذائه والضرب به، متوعدا بأنه سيظهر لأميركا "بأي خشب أتدفأ"، ترجمة لتعبيره الروسي الذي استعمله في الأمم المتحدة، احتجاجا على خطاب ممثل الفيليبين الذي اتهم الاتحاد السوفيتي بالهيمنة على دول أوروبا الشرقية، إلا أن ما قامت به ممثلة الولايات المتحدة من تهديد وابتزاز للأعضاء في المنظمة سابقة سيئة، تشهد على مستوى متدنٍ للدبلوماسية الأميركية في عهد ترامب التي غالبا ما تردّد شكواها الأزلية من كره العالم لها.
ولحسن الحظ، أثار قرار ترامب سخطا عالميا رسميا وشعبيا، فتصويت 128 دولة لصالح قرار يرفض تغيير وضع القدس، ويؤكد القرارات السابقة المتعلقة بها، نصر لفلسطين المحتلة ولقدسها، ما يعني أن قضية الاحتلال لم تزل قضية احتلال، لن تمرّ، على الرغم من كل محاولات تطبيعه الإقليمية والدولية، ونصر شعبي عالمي لمن يرفض ويناضل من أجل الحقوق الفلسطينية، إذ لقي القرار ارتياحا واسعا في العالم من المنظمات الداعمة للحق الفلسطيني، ومن شعوب هذه الدول التي صوّتت لصالحه، وشجبت بعنف البلطجة الأميركية. ويطرح تصويت هذا العدد من الدول سؤال إمكانية مواجهة دبلوماسية البلطجة الأميركية التي يسوّقها ترامب منذ تسلمه دفة البيت الأبيض، وخصوصا في المنطقة العربية التي تفتح له أبوابها مشرعةً، لترقص معه، وتجزل له العطاء والهدايا، متناسية أن أساس الفوضى هو التدخل الأميركي بأشكاله المتنوّعة.

لسوء حظ شعوبنا العربية أنه ليس لحكوماتنا أي سياسة دبلوماسية، ولو بالحد الأدنى، تمكّنها من المناورة، وأخذ أقل ما يمكن من الطرف الآخر الذي بالضرورة لا يملك كل أوراق اللعبة. يكفي هذه الحكومات أن ترى كيف أن أكبر حلفاء الولايات المتحدة والمرتبطين بها، كما في دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) يحرّكون بعض الأوراق معها، ويفرضون مواقف تميزهم عنها. هذه المتحدثة بأسم الخارجية الألمانية، ماريا أديبار، تصرح من برلين "صوتنا بما قرّرنا التصويت به". وهي رسالة قوية من الدولة الألمانية، ليس فقط بشأن مدينة القدس، بل وبشأن القضية الفلسطينية برمتها، وكل ما يخصها من قراراتٍ شرعيةٍ، أقرّتها الأمم المتحدة، وصوتت عليها الدول الأعضاء. ويعبر موقف ألمانيا أيضا عن رفض تصريح شعبوي، لا يليق بالموقع الرئاسي، ولا بالدبلوماسية، بل ربما ناتج عن وضع الرئيس الأميركي نفسه، المحشور في الزاوية، منذ رغبة بعض نواب الكونغرس إقالته وإجباره على الاستقاله من منصبه.
ليس ذلك فحسب، فقد صوّتت فرنسا لصالح القرار، على الرغم من كل تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، التي تصب في صالح الأحتلال، وقد قال، في مؤتمره الصحافي، مع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، إن الولايات المتحدة قد همّشت، ليترجم موقفا فرنسيا يعبر عن شعور بالمسوؤلية لدوره عضوا في مجلس الأمن، يحترم القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
ليس هذا التصويت فقط، كما قال ماكرون، تهميشا للأميركيين، لكنه يبدو بشكل جلي خطأ سياسي فادح من ترامب إزاء دول العالم كافة، وإزاء مدينة القدس خصوصا، أطاح صورة الولايات المتحدة، على الرغم من أن كل المرشحين الأميركيين للرئاسة كانوا يعدون بنقل سفارتهم إلى القدس، لكن هذا الأمر غالبا ما كان شعارا انتخابيا وليس للتنفيذ. أظهر التصويت الأممي على وضع القدس باعتراف دول كبيرة أن موازين القوى بدأت فعلا بالتغير، ومستمرة في الانقلاب في اتجاهات تهميش الغرب عموما، وليس فقط الولايات المتحدة، ما سيحدّ من تأثيرها مستقبلا، ومن دورها في الشرق الأوسط لحساب دول أخرى.
تظهر هذه القضية، مرة أخرى، وجود هامشٍ تستهين به الدول العربية منذ عقود، وفي كل المناسبات الكبيرة والصغيرة التي تمر بها المنطقة، أن في وسع هذه الدول أن تلعب، هي الأخرى، على تغيير موازين القوى لصالحها، ولو بالحد الأدنى، وتحمي نفسها، وتحمي مصالحها المستباحة، بإرادة مشلولة، بسبب العلاقة مع الولايات المتحدة. فمن وقف أمام البلطجة الأميركية هي دول أقل أهمية، وأقل غنى من كل الدول العربية، لم يردعها تهديد القوة العظمى، ولا ابتزاز ممثلتها، بل أعطاها ذلك كله مزيدا من العزم على الوقوف بوجه العنجهية، وعقلية الكاوبوي التي تمارسها الولايات المتحدة مع دول العالم.
065C781D-CEC8-48F5-8BB1-44AD7C46983D
065C781D-CEC8-48F5-8BB1-44AD7C46983D
ولاء سعيد السامرائي

كاتبة وصحفية عراقية مقيمة في باريس

ولاء سعيد السامرائي