داعش بوصفها "غزواً داخليّاً"
من أطرف التبريرات التي سمعتها من المسؤولين العراقيين، بعدما سيطر تنظيم "داعش" (اختصاراً للدولة الإسلامية في العراق والشام) على الموصل بسهولة بالغة، قول أحدهم غاضباً "نحن نتعرّض لغزو خارجي". ووجه الطرافة في الأمر أنّ المسؤولين السوريين كانوا يشتكون من أنّهم يتعرّضون لغزو خارجي من داعش (القادمة من العراق)!
أمّا زعيم القاعدة، أيمن الظواهري، فقد دخل، بصورة مختلفة، على خطّ السجالات بشأن داعش، عندما طالب التنظيم بأن يعود إلى العمل والقتال ضمن منطقة وجوده الأساسية في العراق، بينما يترك لجبهة النصرة اختصاص العمل في سورية.
المفارقة تكمن في أنّ الأغلبية العظمى من تنظيم داعش في العراق هم من العراقيين السنّة، والحال كذلك بالنسبة لجبهة النصرة في سورية، فأغلبيتها من السوريين.
المعنى مما سبق أنّ الأساس الصلب في فهم صعود هذه الجماعات والحركات يكمن في أنّها ابن شرعي للمجتمعات العربية، وانعكاس أمين وصادق لطبيعة التحولات الخطيرة التي تحدث في العديد من هذه المجتمعات، بأزماتٍ داخليةٍ ذات أبعاد سياسيةٍ واقتصاديةٍ، أو اجتماعية مركّبة!
في مؤتمر إقليمي، عُقد أخيراً في عمّان (بدعوة من مؤسسة فريدريش أيبرت الألمانية)، حول "صعود الراديكالية الإسلامية"؛ توافق أغلب المشاركين من خبراء الحركات الإسلامية وعلم الاجتماع على تعريف هذه الحركات والجماعات، بوصفها حركات احتجاجٍ اجتماعيٍ بأيديولوجيا دينية، أي أنّ الشرط الموضوعي لصعودها ونموها هو المعطى السوسيولوجي نفسه.
لسنا في حاجة، إذاً، لأن نذهب بعيداً في تفسير صعود داعش، بوصفها الممثل الأكبر للجيل الجهادي الشاب الجديد، في هذه اللحظة التاريخية، في ظل صراع بين قوى غير متوازنة ولا متكافئة، فهنالك مجتمعات سنيّة (في هذه البلاد) مهددة تشعر بالرعب، بينما الطرف الآخر يملك أنواع الأسلحة كلها. إلّا أنّ خطورة هذه الظروف لا تتجمّد عند حدود تلك المجتمعات، بل تمتد إلى المجتمعات الأخرى التي تتأثر بما يحدث، وما يُنقل من صور، فنجد آلاف الشباب المتطوعين المستدعين للقتال هناك، والممر السالك الوحيد هو عبر هذين التنظيمين.
ليس الصراع الطائفي الهويّاتي وحده المسؤول المباشر عن صعود "داعش"، فهناك حيثيات وشروط مختلفة ومتعددة، تساهم في صعود مثيلات هذا التنظيم، بوصفها حركات احتجاج اجتماعي، وربما من يتابع السجال والجدال في الأردن يكتشف حجم القلق والمخاوف، ليس من غزو خارجي تقوم به داعش، كما تذهب توصيفات إعلامية سطحية، بل من "غزو داعشيّ" داخلي، أيّ تفشّي هذا التنظيم وانتشاره في المجتمع، على خلاف ما ذهب إليه الزميل والصديق، محمود الريماوي، في مقالته "داعش ليس له خبز في الأردن" (في موقع العربي الجديد)، إذ إنّ المؤشرات التي ذكرها في مقالته تقابلها مؤشرات في الاتجاه الآخر الذي يثير بالفعل القلق من صعود هذا التيار.
لا يختلف رأي نخبة من الخبراء والسياسيين الأردنيين عن الزميل الريماوي، إذ ترى أنّ الأردن لا يوفّر حاضنة اجتماعية لداعش، وربما هذا الوصف (أي عدم وجود حاضنة اجتماعية) دقيق، لكنّه ليس مطمئناً، لأنّ الأردن أصبح يتوفر على بيئةٍ اجتماعيةٍ منتجةٍ لهذا التيار الذي أصبح يتمدد وينتشر في مناطق عديدة، وتضاعف عدد أتباعه ومؤيديه بصورة ملحوظة في السنوات الماضية!
تكفي الإشارة، هنا، إلى أنّ هنالك آلاف "الجهاديين" الأردنيين يقاتلون إلى جانب داعش وجبهة النصرة، ومئات يحاكمون، أو تمت محاكمتهم، على خلفية قضايا مرتبطة بهذا التيار، وأعداداً كبيرة أخرى في المجتمع تؤمن بهذا التيار وأفكاره، وتعلن ذلك، كما حدث عندما خرج مئات في مسيرة في محافظة معان، ليعلنوا تأييدهم أبا بكر البغدادي زعيم التنظيم، على مرأى ومسمع من الإعلام والحكومة والرأي العام!
بدلاً من استسهال وضع اللوم والمسؤولية على العامل الخارجي، كما نتعوّد دائماً، من الضروري أن نفكّر، أولاً وقبل كل شيء، في العامل الداخلي والتفكير في البيئة المنتجة والحاضنة لهذا التيار، وللظروف والشروط التي تدفع الشباب إلى هذه الطريق، وإلى داخل أسوار هذه التنظيمات؛ ولنفكّر لماذا ينتشر هذا التيار ويتضاعف، بدلاً من أن ينزوي ويتراجع، كما كان مؤمّلاً مع بداية الثورات العربية الديمقراطية، ولماذا يخفت صوت الاعتدال السياسي ويبرز الصوت المتشدد؟!
في السياق نفسه؛ تكمن المفارقة التي وصل إليها الخبراء في المؤتمر الإقليمي المذكور (أسباب صعود الراديكالية الإسلامية)، في أنّ البيئة الاجتماعية (في دول مثل الأردن ومصر والمغرب ولبنان) التي تنتج المخدرات والجريمة والعنف الاجتماعي والتمرّد على القانون هي نفسها التي ينتشر فيها وينمو هذا التيار.
إذا أردت أن تعرف "قصة داعش"؛ ففتّش إما عن الصراع الهوياتي الطائفي والتهميش السياسي واختلال موازين القوى؛ أو عن حالة الإحباط وخيبة الأمل؛ أو عن ظروف البطالة والقهر والحرمان الاجتماعي؛ أو عن تفكك الطبقة الوسطى وانسداد آفاق الحل السياسي، ستجد حينها أنّ الأمر ليس بالسرّ ولا بالمخفي بل ستراه جليّاً واضحاً للعيان، لمن يريد معرفة الحقائق فعلاً!