خيرية قاسمية.. مؤرخة غابت في دمشق الحرائق

25 اغسطس 2014
(حيفا 1936 - دمشق 2014)
+ الخط -

إنهم يتناثرون مثل زنابق الربيع، ويتطايرون مثل حبيبات الطلع في الرياح الهوج. لم يبقَ من جيل المؤرخين الفلسطينيين الرواد إلا نفر قليل جداً، في طليعته وليد الخالدي. هكذا رحل أنيس صايغ، ونقولا زيادة، وزين نور الدين زين، وعبد الوهاب الكيالي، وعارف العارف، وأكرم زعيتر، ونقولا الدر، وهنري كتن، ومحمد عزة دروزة، وسامي هداوي، وعجاج نويهض، وإلياس شوفاني وغيرهم. وهكذا رحلت الدكتورة خيرية في "دمشق الحرائق" على ما تنبأ به الأديب السوري زكريا تامر؛ رحلت بصمت، بعدما ظلت، طوال أربعين سنة، تملأ الأمكنة والجامعات والمنتديات صخباً محبباً.


مؤرخات نادرات
خيرية قاسمية، إلى جانب بيان نويهض الحوت ومي صيقلي، من النساء القليلات جداً اللواتي اقتحمن ميدان التاريخ بجدارة لافتة. وهي، فوق ذلك، أميرة الوداعة والحضور الراقي حين تنعقد مجالس الكلام؛ فقد التقينا، مرات كثيرة، في مكتب أنيس صايغ أو منزله، وضمتنا معاً في بيروت الموسوعة الفلسطينية التي قادها أنيس صايغ، كربّان مغامر بين أمواج متلاطمة، وترافقنا أياماً ممتدة في رحاب الموسوعة في حي التجارة بدمشق، وكم جَمَعَنا منزل نقولا زيادة في بيروت، أو مقر الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين في شارع بغداد بدمشق، أو في مكتبة مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت.

لذلك، أنتدب نفسي إلى القول إن خيرية قاسمية لم تكن مؤرخة فلسطينية مكافحة ولامعة فحسب، إنما تختصر في شخصيتها، قبل أي شيء آخر، المعرفة إذا تكلمت، والرقة إذا تنقلت، والمثابرة في الجهد إذا كتبت، والأدب إذا انتقدت أو وخزت. ويا لأسفي، فقد غادرت خيرية قاسمية هذه الدنيا، من دون أن نودعها في دمشق المغمورة بالدخان والبارود، ما يعيد إلى الذاكرة قصة رحيل الدكتور نقولا زيادة في معمعان المعارك إبان حرب تموز 2006 في لبنان.

آنذاك، تقاطرنا بضعة أشخاص على كنيسة سيدة النياح في شارع المكحول في بيروت، لحضور جنازته، وكانت الطائرات الإسرائيلية تجوب الأجواء اللبنانية، وتغير على أهدافها في الجنوب اللبناني وفي الضاحية الجنوبية لبيروت. هكذا دُفن هذا المؤرخ الفلسطيني الكبير، من دون تأبين، الأمر الذي دعا الفنان جورج الزعني إلى الاحتجاج في الكنيسة، قائلاً: ليتقدم أحد ويقول كلمة في الراحل.

في ما بعد، جرى تأبين نقولا زيادة في أكثر من مكان، وشاركتُ بنفسي في حفل أقامه اتحاد المؤرخين العرب في دمشق لهذه الغاية. وها نحن ننتظر من اتحاد الكتاب الفلسطينيين أو اتحاد المؤرخين العرب أو جامعة دمشق التي كانت الراحلة رئيسة قسم التاريخ في كلية الآداب فيها، أن تبادر إلى القيام بأقل واجباتها نحو هذه المؤرخة اللامعة التي كرست عمرها لدراسة تاريخ المشرق العربي وتاريخ فلسطين معاً.

خيرية قاسمية هي التي نشرت مذكرات فوزي القاوقجي، وحققتها وأخرجتها نصاً علمياً ومرجعاً لمن يريد أن يكتشف كثيراً من الزوايا الظليلة في ثورة 1936 الفلسطينية، وفي تجربة جيش الإنقاذ الذي ظلم كثيراً بالشائعات الكاذبة. وكم "تحرقصتْ وتفلفلتْ"، حين أَعلمتُها أنني أمتلك أوراقاً خاصة بخط يد فوزي القاوقجي لم تنشر من قبل على الإطلاق. وكم رغبَتْ في الحصول على هذه الأوراق، كي تضيفها إلى طبعة جديدة من "مذكرات فوزي القاوقجي". وكنت أعاندها وأقول لها: سأنشر هذه الأوراق أولاً، ثم يمكن إضافتها، بعد ذلك، إلى المذكرات. وها هي أميرة الوداعة ترحل، وما برحت هذه الأوراق حبيسة مطموراتي. إن موتها الأليم يحفزني، الآن، بقوة على نشر هذه الأوراق المهمة، اعترافاً بفضلها، وتحية لاسمها ووفاء لها.


سيرة مكافحة
هذه هي خيرية قاسمية: ولدت في حيفا عام 1936، أي في خضم الثورة الفلسطينية الكبرى، ثم لجأت مع عائلتها إلى دمشق عام 1948. وفي الشام، كافحت في سبيل الحياة، وفي سبيل العلم وفي سبيل فلسطين، ونالت الدكتوراه عام 1972. وعملت محاضرة في معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة، ثم أصبحت أستاذة في قسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة دمشق، وعلى يديها، تخرج كثيرون ممن أصبحوا مؤرخين أو سياسيين لامعين.

وفي تلك الأثناء، صارت مستشارة في مركز الأبحاث في بيروت لشؤون الوثائق، إبان عهد الدكتور أنيس صايغ، ثم عملت في الموسوعة الفلسطينية، وكانت تتنقل بين بيروت ودمشق، وحاضرت في جامعات عالمية شتى، مثل برنستون وشيكاغو ونوتردام، وكانت عضواً في لجنة كتابة تاريخ بلاد الشام في الجامعة الأردنية، وعضواً في اتحاد الكتاب العرب واتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وفازت في سنة 2011 بجائزة القدس التي يمنحها اتحاد كتاب مصر.

لخيرية قاسمية مؤلفات كثيرة، أبرزها: "العلم الفلسطيني" (1970)، "الحكومة العربية في دمشق" (1971)، "النشاط الصهيوني في المشرق العربي" (1973)، "أحمد الشقيري: زعيماً فلسطينياً ورائداً عربياً" (1987). وإلى ذلك، حققت مذكرات فوزي القاوقجي وأوراق عوني عبد الهادي، وحققت أوراق نبيه وعادل العظمة وأصدرتها في كتاب "الرعيل العربي الأول" (1991)، علاوة على مذكرات محسن البرازي (1994).

في سنة 1988، التقينا في مقر اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين بدمشق، وكان معنا ناجي علوش وخالد أبو خالد وحمزة برقاوي وعبد القادر ياسين وجابر سليمان وغالب هلسا الذي لم يكن قد خرج من الكآبة التي أصابته، حين علم أن الأرض ستندثر بعد خمسة مليارات سنة.

وبعد هذا اللقاء، أقلّتنا خيرية قاسمية بسيارتها "الكولت" الصغيرة كل إلى مكانه. وفي الطريق، لاحظتُ أنها، بالأُنس الذي تمتاز به، قد أزاحت ما بقي من كآبة لدى غالب هلسا، فتمازحنا بكلامٍ مرح يليق بها وبمكانتها. وفي أواخر أيامها، عاشت في إحدى ضواحي دمشق بعيدةً عن زحام المدينة التي نشأت فيها وأحبتها كثيراً. وقد تواصلتُ معها لحلحلة مشكلةٍ واجهت كتاباً لها عن اليهود في العالم العربي، كانت عرضته على "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، وكانت كئيبة جراء ما حل بدمشق وسورية معاً.

لم تجد من يزيح الكآبة عنها، فرحلت في 5/8/2014 وحيدة بين أوراقها الكثيرة، وكانت تستعد لنشر أكثر من كتاب في الأيام المقبلة. وها هي زنبقة من زنابق فلسطين تستقر في تراب سورية، قريبة من فلسطين وبعيدة منها في آن، في مرقد كئيبٍ، حيث لا تُزار ولا تزورُ.


اقرأ أيضاً: خيرية قاسمية: سيدة التاريخ الشامي الحديث

دلالات
المساهمون