تتجوّل بعيني زائر عربي، غير لبناني، في ساحة الشهداء في بيروت، حيث المعتصمون والمتجمعون تظاهراً واحتجاجاً، في خيام منصوبة، مساحة بعضها صغيرة وأخرى واسعة نسبياً. تحاول أن تقترب أكثر من تفاصيل لبنانية معيشية، ومتصلة بحاجيات الناس اليومية، وعن رداءة أداء مؤسسات الدولة ودوائرها فيما يتعلق بتدبير شؤون اللبنانيين العامة. لا تكترث لعد الخيام، ولا المجاميع التي تتوزع وتصل المحيط المكاني ببعضه، ويأخذك التجوال الطلق، وكيفما اتفق، بصحبة صديق وصديقة، إلى ساحة رياض الصلح. كلام السياسة قليل إلى حد ما، الكلام كله عن المعيشي والمهني والحياتي والتعليمي، عن الغلاء وأكلاف العيش. لكل خيمة، تقريباً، اسم يدل على التشكيل الشبابي، أو المهني، أو السياسي ربما، الذي تنطق الخيمة باسمه، أو يقول من فيها ما يقولون تعبيراً عن رؤية تجمع المنضوين في هذا التشكيل المدني، الذي غالباً ما تآلف في غضون ما بعد 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. هذا اليوم الذي تسمع من معارف وزملاء تصادفهم، وأصدقاء لصديقيك، تدردش معهم، أن لبنان بعده ليس كما قبله، أو بشيء من الدقة ربما، أن اللبنانيين بعده ليسوا كما قبله. يخبرنا أحد هؤلاء الأصدقاء من غير الشباب، من أهل الخبرة في العمل السياسي والثقافي اللبناني، أن مسحاً متعجلاً أفاد بأن أعمار المشاركين في فعاليات الاحتجاج والتظاهر والاعتصام يتراوح بين نحو 17 عاماً و30 عاماً، وأن نسبة 60 في المائة منهم من النساء. هذا ظاهر إلى حد كبير قدام عينيك في جولتك المسائية، غداة الحشد الكبير نهار الأحد، والذي دلّ على أن زخم الانتفاضة اللبنانية الراهنة ما زال يحافظ على إيقاعه، وأن رهان "بعضهم" على عامل الوقت وضغط حاجات الناس اليومية سيأخذ هذه الانتفاضة، والتي تأخذ اسم الثورة عند متحمّسين لها غير قليلين، إلى التآكل والاهتراء والضجر.
لا يبدو هذا مرجحاً، ليس فقط لأن جولة صاحب هذه الأسطر دلّت على أن روح التحدي والاعتراض والسخط والغضب والحنق ظاهرة في أحاديث المعتصمين عن "البلد" وأحوالها، وعن عناد الطبقة السياسية في السلطة، وإنكارها الواقع، ومعالجاتها أزمتها الحكومية بالآليات نفسها، في مشاورات رئيس الجمهورية ولقاءاته واتصالاته، وبإيقاع بارد، غير أن معتصمي ساحتي رياض الصلح والشهداء لا يرون أبداً أن أزمة "البلد" هنا، في عدم قدرة الحكم نفسه على تشكيل حكومة يتم التوافق على صيغتها وتركيبتها، وإنما هي في كل صيغة أو تركيبة حكم وإدارة تخرج بها "تفاهمات" التيار الوطني الحر وتيار المستقبل وحزب الله وحركة أمل والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي.. إلخ.
إنها خارج هذه التمثيلات التي يرفض اللبنانيون، في غالبيتهم. ببساطة لأن حدّة الأوضاع المعيشية وتردّي الخدمات العامة والغلاء المهول وعموم تفاصيل الملف الاقتصادي العام شديدة الضغط على الحالة العامة للناس. أثبتت التشكيلات الحزبية المذكورة، وكلها شاركت في حكومات الثلاثين عاماً الماضية، عجزها المكشوف ليس فقط في التخفيف من هذه الضغوط، بل ساهمت في مضاعفتها، عندما نهجت خيارات سياسية واقتصادية زادت الأعباء المعيشية، أمام تزايد البطالة وغياب الآفاق أمام خريجي الجامعات المتزايدين عاماً بعد عام، ممن عبروا إلى "شبابهم" بعد ما يمكن تسميتها "مأسسة" انقسام 8 آذار و14 آذار، بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، في فبراير/ شباط 2005.
تسمع في الجولة العابرة، والمرتجلة، بين خيام ساحة الشهداء، أحاديث كثيرة عن هذا كله، يتسلح بعض المتكلمين بأرقام وإحصائيات، والأهم بتجارب شخصية وفردية دالّة، وبتعيين مشكلات وإشكالات تدلّ على نفسها في مختلف أقضية لبنان ومحافظاته وجهاته، فهذا البلد في النهاية ليس بيروت فقط. ولكن، طالما أن الإجماعات عريضة بين مختلف تلوينات المتظاهرين الشباب وأمزجتهم السياسية، وطالما أن الحدود الطائفية والمذهبية تحطّمت، إلى حدٍّ كبير، لديهم، بفعل المشترك الذي ضمّهم في فضاء الاحتجاج اللبناني الجامع، المطلبي في نواته الأولى، وتعبيراته العامة، الثوري النزوع، والطموح إلى حد "إسقاط النظام" الطائفي، فلماذا لا يتأطر أصحاب كل هذه المشتركات في تجمع أو ائتلاف مدني، يضم أكثر ما يمكن من تشكيلات مهنية؟ تسأل في جولتك بين خيام ساحة الشهداء، فيجيبك من يعرف أن الأمر مطروح، وأن محاولات تجري من أجل ذلك، وإنْ كانت القناعة الأعم والأكثر حضوراً في المشهد أن واحدة من مزايا حراك الانتفاضة اللبنانية أنها بلا قيادة، وبلا تمثيلات يتسلل إليها حزبيون وأصحاب يافطات وأجندات أخرى. والبادي أن الوقت ربما ما زال مبكراً، ويحدثك من يحدثك أن "هيئة تنسيق" تشكلت، وجمعت "بيروت مدينتي" و"مواطنون ومواطنات في دولة" و"حق لأبنائي" وغير هذه الحركات والتشكيلات، غير أن الأمر لم يرقَ بعد إلى إشهار تكتل قوي مدنياً، في وسعه أن يكون صاحب مقترحات مطلبية عملية وميدانية، ويفاوض السلطة، ويكون له موقع قيادي ذو أثر وتأثير في المجرى العام لحركة الانتفاضة.
تسمع عن هذا كله وغيره في هذه الجولة المسائية في "ساحة الشهداء" و"رياض الصلح"، لكن تسمع أيضاً عن خوف حقيقي وجدّي من انهيار مالي واقتصادي يضرب لبنان، وأن مصالح الناس وأرزاقها لا ينبغي أن تغيب عن الأذهان، وأن فتح جميع الطرق يجب أن يكون أمراً ملحاً، وهو الأمر الذي لم يعد الجيش ومعه قوى الأمن يتسامحان بشأنه، ويتعمدان الغلظة والمواجهة من أجل إغلاق ملف الطرقات هذا. وأن المصارف والمدارس والجامعات يجب أن تستأنف أعمالها. وبشأن الانهيار المتخوف منه، يبقى الحديث عنه، وبتفاصيل مالية تحتاج دراية موثقة له، يحدثك من يحدثك بين خيام ساحة الشهداء عن حذر المصارف التي تتخذ إجراءاتها من أجل السيطرة على كميات سحب الدولار والعملة الصعبة. ولكن، هناك الطبقة الواسعة في المجتمع اللبناني من الذين تطحنهم الحاجة، وتضيق بهم سبل الرزق، والذين لا يُبالغ بعضُهم في هتافاتهم عن أحوالهم "جائعين"، وعن عدم قدرتهم على دفع أقساط مدارس أطفالهم، وعدم استطاعتهم الاستشفاء. هذه أحوال معلنة، وصارت عابرة لمختلف تنويعات اللبنانيين المناطقية والطائفية. وكلها أسبابٌ قائمة لحفاظ الحراك الاحتجاجي، المطلبي، الثوري، على اختلاف تسميته، على زخمه، وموجاته، واستمراره، وإنْ بتفاوتاتٍ في إيقاع، وفي منسوب الحشود والجموع، بين مساءٍ وآخر، بين يوم العطلة وغير العطلة، وهذه تظاهرات طرابلس الليلية، وتظاهرات لبنانيي الجنوب، تؤكد هذا، كما تأكد، إلى حد ما، لعيون زائر عربي بين خيام معتصمي وسط بيروت.