قضى عبد الله قاسم (33 عاما) خمسة أشهر بعد عودته من السعودية، يفكر في فرص الاستثمار الممكنة في وطنه الذي تطحنه الحرب منذ أربعة أعوام، وفي النهاية ظل محتارا بين فتح محل لبيع أجهزة الهاتف النقال أو معمل لتشكيل الألمنيوم، وقد حاول أن يجرب الخيار الأول، لكنه اصطدم بارتفاع أسعار الإيجارات بشكل جنوني جعله يستقر على الخيار الآخر.
وقال قاسم لـ"العربي الجديد" : "كنت أمتلك معملاً صغيراً للألمنيوم في العاصمة السعودية الرياض، واضطررت إلى بيعه والعودة إلى اليمن رغم الحرب بعد الإجراءات السعودية لتوطين المهن، وبعد تفكير لأشهر كنت محتاراً في أي مدينة يمنية يمكنني أن أجد فرصة لبدء مشروع صغير".
استقر قاسم على العمل في مسقط رأسه مدينة تعز (جنوب غرب اليمن)، وقد استأجر محلاً وبدأ عمله في تشكيل الألمنيوم، ويخشى أن يواجه متاعب في مدينة لا تزال ساحة حرب محتملة، حيث يعيش حالة قلق من عدم القدرة على تغطية إيجار المحل البالغ 120 ألف ريال (266 دولاراً بحسب سعر الصرف الرسمي).
وتمكنت القوات الموالية للحكومة من تحرير المدينة من سيطرة الحوثيين، الذين ما زالوا على مداخلها وقطعوا الطرق الرئيسية التي تصلها بالعاصمة صنعاء وبمدينة الحديدة التجارية غرب البلاد، بينما يسلك السكان طرقاً جبلية وعرة للوصول إلى المدينة ولنقل البضائع التجارية.
ورغم الحرب والحصار، تشهد تعز حركة تجارية نشطة، وخلال الأشهر الثلاثة الماضية تم افتتاح عشرات المحالّ التي تنوعت بين مطاعم حديثة وبيع الملابس وأنظمة الطاقة الشمسية والأجهزة الإلكترونية، وجميعها قامت بأموال المغتربين العائدين.
وفقاً لمصادر في منفذ الوديعة البري على الحدود مع السعودية، فإن نحو 150 ألفاً من المغتربين اليمنيين عادوا إلى بلدهم بعد الإجراءات السعودية الأخيرة التي تضيّق على العاملين الأجانب ومنهم اليمنيون، رغم تسبب الحرب التي تقودها السعودية ضد الحوثيين في دمار واسع للبنية التحتية والاقتصاد اليمني.
وفي العاصمة المؤقتة عدن، حيث مقر الحكومة (جنوب البلاد)، أعلن مغتربون عائدون إنشاء "جمعية عدن للمغتربين". وقال علي السنيدي رئيس الجمعية لـ"العربي الجديد": "نسعى إلى جمع المغتربين العائدين في كيان واحد يمثلهم أمام الجهات الحكومية ويقوم باستثمار أموالهم في مشاريع صناعية وخدمية وشركات مساهمة".
وتشهد مدينة عدن انتعاشاً غير مسبوق في قطاع العقارات والبناء، حيث ارتفعت عشرات المباني الكبيرة منذ مطلع العام الجاري وتقام مدن سكنية حديثة تعتمد نظام بيع الشقق بالتقسيط، وتعود أغلبها لمغتربين فيما يرجح خبراء أن يكون جزء من الانتعاش في العقار يرجع لأمراء حرب يقومون بغسل أموالهم.
ولم تقدم الحكومة أي دعم أو تسهيلات للمغتربين العائدين، لكنها أعلنت أخيراً أنها تسعى للاستفادة من أموالهم بعد قرارها رفع أسعار الفائدة على الودائع إلى 27%، فيما يتردد المغتربون في إيداع مدخراتهم لدى البنوك أو استثمارها لدى البنك المركزي نتيجة حالة عدم الثقة بالحكومة وبالقطاع المصرفي.
وقال سعيد عبد المؤمن أستاذ الاقتصاد والاستثمار في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الإيداع في البنوك يعني الحصول على فوائد عالية بعد قرار الحكومة رفع أسعار الفائدة في محاولة لامتصاص فائض السيولة النقدية، ولكن المشكلة تكمن في أن هذا الحل مؤقت".
وأضاف: "إذا لم تستطع الحكومة استدامة الموارد المالية وإيجاد مصادر قوية للدخل، من خلال تصدير النفط والحصول على مساعدات وقروض من الخارج بما يوفر مبالغ سنوية كبيرة تصل إلى ستة مليارات دولار، فإن ذلك سيعيد الأزمة الاقتصادية والمالية إلى الذروة، ومن ثم قد لا يستطيع المودعون استعادة مدخراتهم كما حصل في السابق وكما يحدث الآن في المحافظات التي لا تتوفر لها سيولة مالية".
وأكد عبد المؤمن أن على المغتربين العائدين التفكير، وبشكل جماعي، في القيام باستثمارات حقيقية ومشاريع صغيرة ذات منتجات حقيقية، توفر لهم فرص عمل ودخلاً جيداً وتحمي مدخراتهم مع تجنب الاستثمار في الأراضي والعقارات، "إذ إنها أصبحت فقاعة تتضخم بشكل غير حقيقي وقد تنفجر في أي وقت تؤدي إلى انهيارها".
وينتمي أغلب تجار اليمن المغتربين إلى محافظة حضرموت على ساحل بحر العرب (جنوب شرقي البلاد)، حيث يعرف سكان المحافظة بانتشارهم منذ القدم في بلدان الخليج وفي شرق آسيا، ويديرون تجارة واسعة في ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة.
وشكلت محافظة حضرموت استثناءً في التعامل مع المغتربين العائدين،إذ وجّه المحافظ اللواء فرج سالمين البحسني في مارس/ آذار الماضي، بتشكيل لجنة لاستقبال المغتربين العائدين من السعودية، كما وجه هيئة الأراضي والعقار بإنشاء مخططات سكنية لتوزيعها على العائدين في شرق المكلا عاصمة المحافظة.
وأعلنت مراكز تسوق تجارية في المحافظة استحداث أسواق جديدة للمغتربين. ورأى حسام السعيدي المحلل الاقتصادي في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الخيارات أمام العائدين تبقى محدودة، فالبنوك تتخذ إجراءات صارمة بخصوص السيولة النقدية، وكذلك فإن تقلبات سعر الصرف قد تعرضهم إلى الخسائر في حال قرروا وضع أموالهم في البنوك.
وقال السعيدي: "من ناحية أخرى، فإن مخاطر الاستثمار كبيرة، إذ يتعرض المستثمرون للابتزاز ومخاطر النهب أو السطو على ممتلكاتهم، أو إثقال كاهلهم بالضرائب والرسوم وخاصة في مناطق سيطرة الحوثيين، وعدم استقرار الأوضاع الأمنية بشكل عام، كما أن القيود على الاستيراد والقيود على حركة التجارة وارتفاع أسعار الوقود، وغياب الخدمات الأساسية كالكهرباء جعلت من اليمن بيئة غير مشجعة على الاستثمار".
وأضاف أنه يمكن تشجيع استثمارات المغتربين عن طريق تسهيل الإجراءات الضريبية، ويمكن إطلاق برنامج حكومي يهدف لمساندتهم من حيث منحهم تسهيلات خاصة، ويمكن أيضاً إنشاء مؤسسة دعم وتمويل وتأهيل لمشاريعهم الصغيرة.
وكان المغتربون آخر قلاع الاقتصاد، وفق وصف المحللين الاقتصاديين، إذ إن تحويلاتهم تمثل نحو ربع النشاط الاقتصادي في البلاد، وهي بمثابة شريان الحياة لمئات آلاف الأسر ودعم الاقتصاد الذي أنهكته الحرب المستمرة.
وأضحت التحويلات التي قدرتها وزارة التخطيط اليمنية بنحو 3.4 مليارات دولار خلال العام الماضي 2017، الممول الأساسي للعديد من الأنشطة الاستثمارية في الكثير من محافظات اليمن كالبناء والتشييد.