خيارات المشهد السياسي التونسي
طبيعي أن يعرف المشهد السياسي التونسي جملة تعقيدات تفرضها ظروف المرحلة، وتجاذبات الانتقال الديمقراطي، ومحاولة القوى السياسية المختلفة تثبيت مواقعها ضمن واقع سياسي متحرك، خصوصاً بعد الانتخابات التشريعية، وفي أفق الدور الثاني للانتخابات الرئاسية. فبعد صعود حزب نداء تونس، ممثلا لقوى سلطوية تشكل امتداداً، في بعض نواحيها، للنظام القديم، ومحافظة حركة النهضة على حضورها الوازن في المشهد السياسي، وحالة التجاذب الحاد التي أوجدها الصراع الانتخابي في الرئاسية، يمكن الحديث عن إعادة تشكل للصورة التي تظل غير محددة الملامح، في انتظار النتائج النهائية للرئاسيات، وتشكيل الحكومة التي ستتولى تسيير أجهزة الدولة للسنوات الخمس المقبلة.
بدا واضحا أن الممارسة السياسية لدى الأحزاب التونسية عرفت تقلبات وحالة من عدم الثبات، وغياب الوضوح يلحظه كل المراقبين للشأن السياسي التونسي، وهو ما يتضح في جملة مواقف متقاطعة، تدعو إلى التأمل والمتابعة. فمن ناحية، بدت ملامح تحالف ممكن بين الحزبين الأقويين، اللذين أفرزتهما نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، ونعني "نداء تونس" وحركة النهضة، وهو ما يمكن ملاحظته في تقاسم المواقع وتبادل التصويت في اختيار رئيس مجلس الشعب الجديد ونائبيه، حيث بدا جليا مدى التساوق بين الطرفين، مع استبعاد مرشح الجبهة الشعبية لمنصب النائب الثاني، ومن ثم توزيع مسؤولية رئاسة لجنتي المجلس الأساسيتين، حيث تولت "النهضة" رئاسة لجنة المالية، و"نداء تونس" لجنة النظام الداخلي.
فتح هذا التساوق الباب أمام تكهنات عديدة، حول إمكانات التحالف المستقبلي بين الطرفين، سواء في التشكيل الحكومي المقبل، أو في التعاون على إنجاح الفترة المقبلة في مواجهة الخيارات الصعبة التي تواجهها البلاد. وإذا كان من الطبيعي الحديث عن مثل هذا التقارب، في ظل التشابه، من حيث البرامج الاقتصادية الليبرالية، لكلا الطرفين، فإن ما يثير الانتباه هو حالة التجاذب التي سبقت هذا التقارب، وسعي جهات داعمة لـ"نداء تونس" إلى إيجاد نوع من القطيعة بين الجهتين، تحت مبررات مختلفة، لكنها تتأسس جميعها على فكرة ضرورة إبعاد "النهضة"، وقطع الطريق أمامها للمشاركة في السلطة المقبلة.
ويزداد تعقد المشهد، في ظل استمرار الحملة الانتخابية الرئاسية، حيث لا يمكن أن ينفي أي مراقب محايد أن نسبة كبرى من مساندي حركة النهضة لا يخفون ميلهم إلى المرشح المنصف المرزوقي، الخصم السياسي لمرشح حزب نداء تونس، الباجي قايد السبسي. ومع إعلان حركة النهضة حيادها في المعركة الانتخابية الرئاسية، وفسحها المجال أمام أتباعها للاختيار، وفق ميولاتهم وتوجهاتهم الخاصة، تكون قد تركت لنفسها مجالاً للحركة والتصرف، خصوصاً مع إعلانها الاستعداد للتعاون مع أي رئيس جمهورية قادم، ما يعني ضمنياً أن حركة النهضة تمنح نفسها فرصة التحالف مع الباجي قايد السبسي، في حالة فوزه بالرئاسة، وتقطع الطريق أمام الجناح الاستئصالي في "نداء تونس"، والذي يحاول، بكل قوة، دفع العلاقة معها نحو القطيعة، وعزلها سياسياً. على أنه من الأكيد أن "نداء تونس" نفسه سيكون مستفيداً من أي تحالف مقبل مع "النهضة" مع ما يعنيه من توسيع القاعدة البرلمانية لأي حكومة قادمة، خصوصاً في مواجهة استحقاقات اقتصادية/ سياسية صعبة.
ومن ناحية ثانية، أثار عدم منح الجبهة الشعبية اليسارية موقع النائب الثاني لرئاسة مجلس الشعب امتعاض القوى الحزبية المشكلة لهذه الجبهة، خصوصاً في ظل ما كانت تسعى إليه من بناء تحالف قوي مع "نداء تونس"، خصوصاً وهي التي لعبت دوراً مركزياً في مواجهة حكم الترويكا والاحتجاجات المشتركة التي خاضها الطرفان، في ما يسمى اعتصام الرحيل. فشلت الجبهة الشعبية في فرض أجنداتها على "نداء تونس"، على الرغم من وجود جناح ذي خلفية يسارية في "نداء تونس"، كان يدعم مسعاها، غير أن ما أثبتته الأحداث اللاحقة أن القوة المركزية في "النداء" ذات الخلفية الدستورية هي المتحكم الحقيقي في ردهات الحزب، وهي تميل إلى بناء تحالفات أكثر قوة وثباتاً، من أجل تسيير الدولة، بعيداً عن التجاذبات الأيديولوجية، وحرف الخلاف السياسي إلى معركة خارج السياق، تستهدف التيار الإسلامي، وهو أمر لو حصل ستكون له ارتدادات خطيرة على الوضع الداخلي للبلاد.
وفي ظل استمرار التجاذب حول منصب رئيس الجمهورية، وعلى الرغم مما يشهده الخطاب السياسي للمرشحين من تصعيد، إلا أن الخطوات التي حصلت تحت قبة مجلس الشعب منعت تحول حالة الصراع الانتخابي إلى صراع سياسي أيديولوجي/هووي، على خلفية صراع ثقافي، أصبح غير ذي موضوع في مرحلة ما بعد الثورة.
وما يمكن التأكيد عليه أن المشهد السياسي التونسي، بتعقيداته الكثيرة، حقق خطوات مهمة وحاسمة، في بناء مشهد ديمقراطي تعددي حقيقي، بعيداً عن منطق الإقصاء والمغالبة. ويظل التنازع الحزبي، والبحث عن المواقع، أمراً طبيعياً في ظل حياة سياسية طبيعية، غير أن نزع فتيل الأزمات سيظل رهين القدرة على عزل المجموعات الصغيرة التي تسعى إلى استئناف منطق التوتير السياسي، والدفع نحو الصراعات الحادة، وتخليق الأزمات التي تستعيد خطاب الإقصاء الذي بنى عليه نظام بن علي حكمه طوال سنوات استبداده، وهو ما قامت الثورة ضده، وأن أي محاولة لإعادة المشهد إلى الوراء، وإعادة إنتاج العقلية السلطوية بشكلها الاستبدادي لن تجد لها فرصة الانبعاث من جديد، في ظل حياة حزبية قوية، ومجتمع مدني نشط، أخذ فرصته لبناء ذاته، في سنوات ما بعد الثورة. فلم يعد أمام تونس، اليوم، إلا مواصلة تقدمها نحو إنجاز خيارها الديمقراطي، وتثبيت أسس الجمهورية الثانية، من خلال توافق جميع الفرقاء وإقرار منطق التعايش.