خواطر خالد الإسلامبولي في انتظار الإعدام (2/3)

16 أكتوبر 2019
+ الخط -
في يوم الأحد 21 يناير 1982 يقرر خالد الإسلامبولي أن يهجر قضية التبرج والحجاب ولكن إلى حين، فيخصص مفكرته لكتابة مقتطفات عن السواك وفوائده، وبعدها بيوم يبدأ الكتابة عن "الغناء ورأي الإسلام"، وما يلفت النظر في هذين الموضوعين أن النصوص التي استشهد بها لم تشغل إلا صفحة واحدة لكل موضوع، مما يعني أن خالد لم يجد استشهادات كثيرة فيما دخل إلى سجنه من كتب، وهو ما اضطره أحياناً للكتابة من الذاكرة، فارتكب أخطاء فاحشة، أبرزها حين أورد فيما كتبه نصاً لآية قرآنية، بينما هي في الحقيقة لا علاقة لها بالقرآن الكريم، حين كتب بالنص: "وقال تعالى: وبحسب المؤمن الضلالة أن يختار حديث الحق"، وهو نص يصعب على من كان له دراية بالقرآن ولو من باب الاستماع المنتظم أن ينسبه إلى القرآن.

ستجد أمثلة على هذه الأخطاء بدرجات مختلفة طول الوقت، برغم وجود مصحف في حوزة الإسلامبولي منذ البداية، وقبل حتى أن يتم السماح بإدخال الكتب والأوراق إليه، في يوم 15 يناير مثلاً يكتب "ومن يطع الله ورسوله يدخل جنات"، والصحيح "يدخله جنات"، كما يورد نص آية يكتبها هكذا "أفتئمنون.."، والصحيح "أفتؤمنون"، وفي 17 يناير يكتب "ومن أعرض عن ذكري فأن له معيشة ضنكا"، والصحيح "فإن له"، ويكتب آية "ذلك أزكى لهم" هكذا "ذلك أذكى لهم"، وفي يوم 20 يناير يكتب عبارة "وما متاع الدنيا إلا إلى حين"، ثم يشطبها، ويبدو أنه تصور في البداية أنها آية، ثم قام بشطبها عندما اكتشف عدم وجود آية بهذا النص، ولعله كان يقصد ربما أن يستشهد بقوله تعالى: "وما متاع الدنيا إلا قليل".
في 22 يناير أيضاً يقوم خالد الإسلامبولي في مفكرته بكتابة آية نصها "أولئك هم شر البلية"، والصحيح "شر البرية"، والفارق كبير جداً بين الكلمتين بالطبع، وفي 26 يناير يورد آية "أفلا تنظرون إلى الإبل" بدلاً من "أفلا ينظرون.."، كما يخطئ أيضاً في نص حديث "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، فيكتبه "فافعل ما شئت"، وفي 30 يناير يستشهد بقوله تعالى "قد أفلح المؤمنين"، والصحيح "المؤمنون"، وفي 1 فبراير يكتب "قال لكل ضعفاً"، والصحيح "قال لكل ضعفٌ"، وفي 9 فبراير يورد آية من سورة الأعراف يكتبها هكذا "قالوا إن الله حرمها على الكافرين"، والصحيح "حرمهما على الكافرين"، وبالتأكيد كان لكل هذه الأخطاء الهين منها والفاحش أثر في قرار الأسرة بعدم الدفع بالمخطوطة للنشر، كما كان ينتوي خالد الإسلامبولي الذي كان يتعامل مع ما يكتبه بوصفه كتاباً ينتظر النشر، ولذلك قام بإطلاق تعبير (باب) على الخواطر التي يجمعها موضوع واحد، متأثراً في ذلك ربما بكتب التراث القليلة التي قرأها.
في الجزء الذي خصصه الإسلامبولي في مفكرته لذم الغناء، يورد قاتل السادات نصوصاً تقول إن الغناء ينبت النفاق في القلب وينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة، مع أنها ليست أحاديث نبوية صحيحة، بل هي نصوص مرسلة منسوبة لعبد الله ابن مسعود ويزيد بن الوليد، وحتى النصوص التي تم نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يذكرها الإسلامبولي لأنها لم تحضر في ذاكرته أو لم ترد في الكتب، تناولها العديد من الفقهاء بالتفنيد والنقد، انظر للاستزادة كتاب الشيخ محمد الغزالي (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) وكتاب الدكتور محمد عمارة (الإسلام والفنون الجميلة) وستجد فيهما عرضاً وافياً للتفنيد الذي لقيته النصوص التي استشهد بها الإسلامبولي واعتبرها حاسمة في ذم الغناء.
على أية حال، بعد كل ما كتبه الإسلامبولي في ذم التبرج والغناء وفضائل الحجاب والمسواك، قام بتخصيص صفحات من المفكرة لآيات قرآنية متعلقة بالجانب الروحي، ثم انتقل في يوم 27 يناير إلى الشعر، ليورد عدة عبارات لا تمت بصلة للشعر، لم يورد اسم مؤلفها، مما يرجح أنها كانت من بين محاولاته الشعرية التي أشار إليها من كتبوا عن ظروف سجنه، لكن لا يمكن القطع بذلك في الوقت نفسه، اختار خالد لأبياته عنوان (المسلم أخو المسلم) قال فيها:
"ليتك مسلم كما يبغي ربك منك
وقمت ورائي حين تقوم أموت فداءك
وحين أقوم تموت فدائي
إنك مسلم تشهد أن إلهك واحد
إنك فيها من شركائي"
لمدة يومين متتاليين (28 يناير و29 يناير) خصص خالد الإسلامبولي صفحات مفكرته للكتابة عن الزواج، دون أن يشير إلى تجربته الشخصية مع فكرة الزواج، خاصة أنه لم يكن متزوجاً ولا خاطباً كما تقول الكتب التي تناولت سيرته، وبالتأكيد كان ما كتبه سيكتسب قيمة أكبر من الناحية الإنسانية، لو أنه كتب أي تفاصيل عن علاقته بالمرأة أو عن تجاربه العاطفية أياً كانت طبيعتها، لكنه اختار أن يلتزم بالجانب الوعظي، فكتب مجموعة من الأحاديث التي تحض على الزواج بالمرأة الصالحة، وفي وسط هذه الأحاديث عاد إلى موضوعه المفضل: الحجاب والتبرج، فأقحم ملاحظة تقول بالنص: "صوت المرأة فتنة ـ ظهور رأس المرأة وشعرها عورة"، ليؤكد انحيازه إلى خيار النقاب الشامل صوتاً ووجهاً ولبساً.
بدأ بعدها خالد الإسلامبولي في كتابة نصوص مختارة عن الصلاة وفضلها، وانتقل منها إلى كتابة بعض الآيات القرآنية عن الجهاد، لأول مرة منذ بدأ كتابة خواطره، والملفت أنه في يوم 2 فبراير يورد في مفكرته ضمن تلك الآيات قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا"، وهي الآية التي استخدمها العديد من مشايخ الأزهر ـ في وسائل الإعلام ومنابر المساجد ـ في نقد ما قام به خالد الإسلامبولي، مستشهدين بسبب نزول الآية الذي أوردته كتب التفاسير، حين غضب الرسول عليه الصلاة والسلام من أحد الصحابة حين قتل أحد المشركين بعد أن قال له "السلام عليكم" ونطق الشهادتين، لكن الصحابي أصر على قتله، وأشار بعضهم إلى أن أخطاء السادات تدخله في أسوأ تقدير تحت بند "الحاكم الظالم"، وليس "الحاكم الملحد المنكر للدين"، خاصة أنه لم يكن يتوقف عن ترديد الآيات القرآنية في خطبه، ولا عن الاعتزاز بممارسته للشعائر الدينية.
لكن خالد الإسلامبولي لم يتوقف عند هذه المفارقة خلال نقله للآية القرآنية في مفكرته، لأنه انحاز إلى رؤية جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية التي تقطع بكفر السادات، واعتبر أن فتوى محمد عبد السلام فرج بضرورة قتل السادات كافية لتنفيذ مهمته، وحين حدث جدال بينه وبين عبد الحميد عبد السلام أخيه في الرضاعة وشريكه في المهمة، الذي قال له إن ما يفكر فيه هو هاتف الشيطان، قال محمد عبد السلام فرج للإسلامبولي مشجعاً أن هذا هو "هاتف الوحي"، وهو ما انحاز له الإسلامبولي، وواصل إقناع عبد الحميد عبد السلام حتى قرر مشاركته في خطته.
بعد عدة أيام خصصها لكتابة مقتطفات من الآيات والأحاديث في موضوعات متناثرة، دون أن يربط بينها رابط محدد، بدأ خالد الإسلامبولي في يوم 10 فبراير بكتابة مجموعة من الوصايا، التي تؤكد ما قيل أن خالد كان يأمل في أن تنشر مفكرته ككتاب يكون بمثابة كتاب للنصائح الدينية أو الوصايا، وبالطبع لم تخرج وصايا الإسلامبولي عن محفوظات كتب الرقائق التي يتداولها المتدينون، وحين قام بالتجديد في صياغة بعضها كتب الوصايا الآتية: "لا تغتر بإقبال الدنيا عليك. ولا تغتر بجاهك ومنصبك مهما عظُم ـ اهتم بغض البصر عن المحارم".
في 13 فبراير عاد خالد الإسلامبولي لممارسة هواية كتابة الشعر الديني، فبعد أن استشهد ببعض أبيات قصيدة مشهورة تُنسب للمفارقة إلى شاعر الخمريات الشهير أبي نواس وهي القصيدة التي يقول مطلعها:
إلهي لا تعذبني فإني
مقرٌ بالذي قد كان مني"
نسج على منوال هذين البيتين قائلاً:
"إلهي إلهي إن ضعت فلا تدعني
لشيطاني وجنبني عذابك
وإن ضاقت بمعصيتي ذنوباً
فاسمح لي بمغفرة جنابك"
بعدها بدأ خالد الإسلامبولي ينقل باستفاضة عن كتاب (الأربعون حديثا النووية) الذي جمع فيه الإمام النووي 42 حديثاً نبوياً، فخصص في يوم 18 فبراير مفكرته لمختارات وضعها تحت عنوان (باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر)، وأتصور أن اختيار نصوص في مثل هذا الموضوع الذي لا علاقة له بما يعيشه خالد في زنزانته، ثم اختيار موضوع أشد بعداً عن حالته مثل حرمة الكلام أثناء خطبة الجمعة، يمكن ربطه بمحاولة خالد تعويض إحساسه بنقص تفقهه في الدين، ورغبته في الإلمام بأدنى التفاصيل الفقهية التي لم يتح له معرفتها من قبل، ويمكن أيضاً ربطه بمحاولة خالد الهروب بشكل أو بآخر من مشاعر الترقب والتوتر التي كان يعيشها في تلك الفترة مع اقتراب يوم 6 مارس 1982 يوم النطق بالحكم في قضيته.
كان أغلب المحامين الذين ترافعوا في القضية يؤكدون لوسائل الإعلام وللمحيطين بهم توقعهم أن القضاة لن ينطقوا بحكم الإعدام، وأن لدى خالد وشركائه فرصة في الحصول على المؤبد فقط، كجزء من رغبة نظام مبارك في تخفيف التوتر مع الجماعات الإسلامية، خصوصاً بعد ما جرى من أحداث إرهابية في أسيوط أشعرت الدولة بوجود خطر شديد يضعف قدرتها على السيطرة على مساحات من صعيد مصر، وهو ما تزامن مع ضغوط مارستها العديد من الدول العربية على أمل إقناع مبارك بتخفيف الأحكام، كجزء من السعي لاستعادة العلاقات بين مصر وتلك الدول مقابل منح ومساعدات، وهو ما أشار إليه عادل حمودة وشوقي خالد في كتابيهما، لكن خالد الإسلامبولي القادم من قلب المؤسسة العسكرية، كان يعرف في قرارة نفسه كما أتصور أن ذلك لن يحدث، وأن رصاص الإعدام قادم ولا محالة، وهو ما ظهر جلياً فيما كتبه في المفكرة.
....
نختم غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.