28 يناير 2024
خلطة خيري منصور السّرية
لا يحتاج "صبيّ الأسرار" الكثير ليعطي الكثير، كل ما ينبغي أن يفعله مشيعو جنازة خيري منصور أن يدسوا في قبره قلمًا وورقة، ويعلّقوا على سقفه فانوسًا خافت الضوء؛ وحينها لن يشعر أحدٌ بغياب من يقهر الموت بنصوصٍ لا تموت.
سيّان، أيضًا، إن لم يفعلوا، ففي وسع خيري منصور أن يبتكر أدواته الخاصة، تمامًا كما كان يفعل في حياته، حين تضيق عليه الأرض بما رحبت، فهو ابن الهوامش قبل كل شيء، اختبر أسرارها جيدًا، وسبرها، منذ عرف أن كل العواصم الضخمة التي لجأ إليها عقب رحيله عن بلدته، دير الغصون، ليست أكثر من هوامش في حسابات "صبيّ الأسرار" الذي حلّقت كتاباتٌ لاحقة له حول متن القرية الأمّ التي رحل عنها ذات خيبة.
من تلك الهوامش، انطلقت عبقرية "رجل الأسرار" لتجتاح الفضاء الأدبيّ كله، وتفرض حضورها في كبريات الصحف العربية، من الأرصفة التي كان يُعمل قدميه فيها يوميًّا، حتى بعد أن أصبح قلمًا مشهورًا ومطلوبًا بقوة، تعرفه المناطق الشعبية، ومقاهي المتعبين، وأكشاك الكتب؛ وكان يعدّ هذا التجوال جزءًا عضويًّا من عمله الكتابي، وليس محض نزهةٍ، ففيه مخزنٌ خصبٌ يمدّه بمصدر إبداعٍ لا ينضب.
ومن القليل جاء الكثير، فقد استطاع "عبقريّ الهوامش" أن يطور أدواته، ويشحذها بنهم الاطلاع الذي لم يقتصر على القراءة فقط، بل كان مهتمًّا حتى بالأبحاث العلمية، ودورة حياة الحيوانات والنباتات؛ لأنه كان على قناعةٍ بأن ثمّة حبالاً سرية تربط بين الكائنات كلها، ويتعيّن على من يبتغي تفسير ظاهرةٍ بشريةٍ ما أن يلجأ إلى دراسة هجرة الطيور، مثلًا. والأمر نفسه ينسحب على الإبداعات الإنسانية بسائر حقولها، من شعر ورواية وموسيقى وفن تشكيلي وفلسفة؛ إذ قلّما خلت مقالة كتبها منصور من استشهاد علمي، أو استدعاء أدبي، أو استقراء تاريخي، أو تنبؤ مستقبلي.
تلك هي "خلطة" خيري منصور السرية في مقالاته، حصرًا، التي كان يتعامل مع مزيجها بمقادير دقيقة تشتمل على الأدب والسياسة والفن والفكر والتاريخ والجغرافيا والفيزياء والعلوم، وربما سائر الحقول المعرفية الأخرى، فيستطيع السياسي أن يأخذ من المقال ما يريد، وكذا يفعل الشاعر والروائي والقاص والمفكّر والعالم. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ استطاع خيري منصور بعبقريته أن يبدّل الأدوار، أيضًا. كأن يجعل السياسي، بعد الفروغ من قراءة المقال، مغرمًا بالأدب، وأن يجعل الشاعر مولعًا بالسياسة، وأن ينبّه المفكّر إلى ضرورة ابتكار مشروعٍ نهضوي موسيقي، إلى جانب مشروعه الحضاري.
في نصوصه امتلاءٌ يتناقض، تمامًا، مع جسده النحيف، وشحوبه الغامر. ومن بقايا فنجان قهوته كانت تخرج آلاف الأفكار التي تلتمس التدوين على ورقه المبعثر، وكان في وسعه أن يكتب من أي زاويةٍ متاحة، كأنه في سباقٍ محمومٍ مع ساعته التي تذكّره، دومًا، أن العمر أقصر من قلمه الطويل، وعليه أن يدوّن كل شيءٍ قبل أن يسبق الأجل الحبر، يتنقّل بين الشعر والمقال والخاطرة والنص؛ ليعطي كل حقل نصيبه، فإذا تعب ألقى كل شيءٍ وارتدى جاكيته المقلّم، وأظهر من جيبه العلوي طرف المنديل الملوّن، ومشى باعتداد "كهل الأسرار" الذي يعرف كل شيء، ولن تُعجزه الفكرة، ولا الحرف، فهو ابن الهوامش التي جعل منها قصورًا يحسده عليها أثرياء وساسة، وأدعياء أدب وفن.. فعبقريته تكمن في قليله، ولا يحتاج أزيد من هامش حريةٍ ضئيلٍ ليستحضر الحرية المطلقة في نصه، ولا يحتاج أزيد من ورقةٍ تغني عن مجلداتٍ برمّتها، ولا يحتاج أزيد من رصيفٍ ليجعله ممرّا فضائيًّا إلى أبعد الكواكب، ولا يحتاج أزيد من قبرٍ ليبرهن أنه أقوى من الموت.
سيّان، أيضًا، إن لم يفعلوا، ففي وسع خيري منصور أن يبتكر أدواته الخاصة، تمامًا كما كان يفعل في حياته، حين تضيق عليه الأرض بما رحبت، فهو ابن الهوامش قبل كل شيء، اختبر أسرارها جيدًا، وسبرها، منذ عرف أن كل العواصم الضخمة التي لجأ إليها عقب رحيله عن بلدته، دير الغصون، ليست أكثر من هوامش في حسابات "صبيّ الأسرار" الذي حلّقت كتاباتٌ لاحقة له حول متن القرية الأمّ التي رحل عنها ذات خيبة.
من تلك الهوامش، انطلقت عبقرية "رجل الأسرار" لتجتاح الفضاء الأدبيّ كله، وتفرض حضورها في كبريات الصحف العربية، من الأرصفة التي كان يُعمل قدميه فيها يوميًّا، حتى بعد أن أصبح قلمًا مشهورًا ومطلوبًا بقوة، تعرفه المناطق الشعبية، ومقاهي المتعبين، وأكشاك الكتب؛ وكان يعدّ هذا التجوال جزءًا عضويًّا من عمله الكتابي، وليس محض نزهةٍ، ففيه مخزنٌ خصبٌ يمدّه بمصدر إبداعٍ لا ينضب.
ومن القليل جاء الكثير، فقد استطاع "عبقريّ الهوامش" أن يطور أدواته، ويشحذها بنهم الاطلاع الذي لم يقتصر على القراءة فقط، بل كان مهتمًّا حتى بالأبحاث العلمية، ودورة حياة الحيوانات والنباتات؛ لأنه كان على قناعةٍ بأن ثمّة حبالاً سرية تربط بين الكائنات كلها، ويتعيّن على من يبتغي تفسير ظاهرةٍ بشريةٍ ما أن يلجأ إلى دراسة هجرة الطيور، مثلًا. والأمر نفسه ينسحب على الإبداعات الإنسانية بسائر حقولها، من شعر ورواية وموسيقى وفن تشكيلي وفلسفة؛ إذ قلّما خلت مقالة كتبها منصور من استشهاد علمي، أو استدعاء أدبي، أو استقراء تاريخي، أو تنبؤ مستقبلي.
تلك هي "خلطة" خيري منصور السرية في مقالاته، حصرًا، التي كان يتعامل مع مزيجها بمقادير دقيقة تشتمل على الأدب والسياسة والفن والفكر والتاريخ والجغرافيا والفيزياء والعلوم، وربما سائر الحقول المعرفية الأخرى، فيستطيع السياسي أن يأخذ من المقال ما يريد، وكذا يفعل الشاعر والروائي والقاص والمفكّر والعالم. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ استطاع خيري منصور بعبقريته أن يبدّل الأدوار، أيضًا. كأن يجعل السياسي، بعد الفروغ من قراءة المقال، مغرمًا بالأدب، وأن يجعل الشاعر مولعًا بالسياسة، وأن ينبّه المفكّر إلى ضرورة ابتكار مشروعٍ نهضوي موسيقي، إلى جانب مشروعه الحضاري.
في نصوصه امتلاءٌ يتناقض، تمامًا، مع جسده النحيف، وشحوبه الغامر. ومن بقايا فنجان قهوته كانت تخرج آلاف الأفكار التي تلتمس التدوين على ورقه المبعثر، وكان في وسعه أن يكتب من أي زاويةٍ متاحة، كأنه في سباقٍ محمومٍ مع ساعته التي تذكّره، دومًا، أن العمر أقصر من قلمه الطويل، وعليه أن يدوّن كل شيءٍ قبل أن يسبق الأجل الحبر، يتنقّل بين الشعر والمقال والخاطرة والنص؛ ليعطي كل حقل نصيبه، فإذا تعب ألقى كل شيءٍ وارتدى جاكيته المقلّم، وأظهر من جيبه العلوي طرف المنديل الملوّن، ومشى باعتداد "كهل الأسرار" الذي يعرف كل شيء، ولن تُعجزه الفكرة، ولا الحرف، فهو ابن الهوامش التي جعل منها قصورًا يحسده عليها أثرياء وساسة، وأدعياء أدب وفن.. فعبقريته تكمن في قليله، ولا يحتاج أزيد من هامش حريةٍ ضئيلٍ ليستحضر الحرية المطلقة في نصه، ولا يحتاج أزيد من ورقةٍ تغني عن مجلداتٍ برمّتها، ولا يحتاج أزيد من رصيفٍ ليجعله ممرّا فضائيًّا إلى أبعد الكواكب، ولا يحتاج أزيد من قبرٍ ليبرهن أنه أقوى من الموت.