خلدون المالح السهل الممتنع

28 يونيو 2016
لوحة للفنان الفرنسي روبرت دولونيه (Getty)
+ الخط -
يفتح رحيلُ إنسان ما الشهيةَ للحديث عنه.. فمع سماعنا نبأ وفاة المخرج السوري خلدون المالح، في الخامس والعشرين من إبريل/ نيسان الفائت، بدأنا نستذكر سيرتَهُ الفنية.. 
بيد أن هذا الاستذكار وضعنا أمام إشكالية تتعلق بتحديد بداياته الحقيقية في الفن بشكل عام، وفي الإخراج بشكل خاص، حيث ثمة أخبار متضاربة.. وهنا لا بد لي أن أشكر الأستاذ معن البياري الذي نبّهني إلى ضرورة التدقيق في هذا النوع من الكتابة لأن آخرين قد يستندون إلى ما نكتب، فيصبح أساساً للتوثيق، وكذلك أعرب عن امتناني للأساتذة محمد فردوس الأتاسي، وهيثم حقي، ومحمد منصور، ومأمون البني، الذين ‏ساعدوني في الوصول إلى مقاربة الحقيقة في ما يتعلق بسيرة هذا المبدع المتميّز. ‏

كان خلدون المالح، بحسب مأمون البني، يعمل، بين سنة 1954 و1955، في الجناح الأميركي بمعرض دمشق الدولي، ويقدم برنامج "فكر تربح". وفي الأيام الأولى للوحدة مع مصر 1958، دعاه مدير الإذاعة السورية الأمير يحيى الشهابي للعمل كموظف في الإذاعة، وهذا ما كان. وقد لمع نجمه بسرعة، حتى أصبح المذيع رقم واحد من حيث الأهمية. ثم أوفدته الإذاعة مع زميليه عادل خياطة ونذير عقيل لاتباع دورة في القاهرة، ومنها أوفد الثلاثة إلى إيطاليا واتبعوا دورة (تأسيس تلفزيون).. وفي 23 يوليو/ تموز 1960 افْتُتِحَ التلفزيون السوري، وأصبح يعمل فيه بصفة معد برامج، ومذيع، وهو مَنْ شجع دريد لحام ونهاد قلعي على تقديم ثنائي يقلّد فيه دريد لحام شخصية "كارلوس" الإسباني، وخلال العمل يعزف دريد ويغني. وقد أفادني الناقد محمد منصور أن تمثيليتي "الإجازة السعيدة" و"سهرة دمشق" كانتا بداية لبرامج المنوعات التي ‏قدمها التلفزيون السوري عام 1960 بإخراج خلدون المالح، متضمنة شخصية كارلوس.
ثم انتقلوا إلى تشكيل الثنائي (غوار الطوشة وحسني البورظان)، المقتبس عن الثنائي العالمي الشهير لوريل وهاردي.. ونسجاً على هذا المنوال، كتب نهاد قلعي حلقات مسلسل "مقالب غوار" وأخرجه خلدون المالح، وكان ذلك في العام 1965 على الأرجح. 
لم يكن الناس في الأيام الأولى لتعرفهم على الشاشة الفضية ينتبهون لاسم المؤلف، أو المخرج، أو مدير الإضاءة والتصوير، وباقي الفنيين الذين يعملون على إنجاز عمل تلفزيوني ما،... فما كان يهمهم، بالدرجة الأولى، هو أن يذهبوا إلى المقاهي الشعبية، حيث توجد أجهزة تلفزيون عمومية، لأجل شيء واحد يلخّصونه بقولهم: رايحين نتفرج على غوار!.. وكانت الفرجة على غوار، بحد ذاتها، تستحق الفرجة، حيث تخلو شوارع المدن والبلدات التي تصلها الكهرباء من البشر، في وقت العرض، كما لو أن فيها (منع تجول)! وأصوات الضحك الجماعي، أثناء الفرجة، تشبه أصوات المتفرجين على كرة القدم في لحظة تسجيل هدف في مرمى الخصم!

لا توجد علاقةٌ منطقية تربط بين الإبداع الفني ولعب القمار، ولكن الظروف الاجتماعية المحيطة بعمل فني ما، خصوصاً في البلدان ‏المتخلّفة، تشبه القمار، لأنها تَلعب دوراً في رواج العمل وشهرته أكثر مما ‏تلعبه مقوماتُ النجاح الموضوعية... لذلك كنا نسمع، إثر عرض أي مسلسل ‏تلفزيوني عبارة: المسلسل ضَرَب صولد!.. المقتبسة من لعبة "البوكر"، وتعني ‏أنه قامر بأوراقه كلها وقد رقص له الحظ... وهذا ما كان بالنسبة لمقالب غوار الذي أعيد عرضه أكثر من مرة، مع احتفاظه بنسبة عالية من المشاهدة على الدوام.‏
سنة 1968، أي بعد ثلاث سنوات من إنتاج مسلسل "مقالب غوار"، أنتجت النسخة الثانية في استوديوهات لبنان والمشرق بتوقيع المخرج اللبناني الذي اشتهر بإخراج الأعمال المدبلجة "نقولا أبي سمح" على ‏الحلقات (من 1 إلى 11)، وأما الحلقتان (12 و13) فوُضع عليهما اسم ‏المخرج اللبناني الشهير أنطوان س. ريمي.‏ والحقيقة أن أبو سمح وس. ريمي أخرجا مسلسلاً مُخْرَجاً ‏من قبل، وكان يجدر بهما حفظ حقوق المخرج خلدون المالح في التصور الإخراجي ‏الأساسي للمسلسل، وذلك بغض النظر عن نوع العمليات الفنية أو الإضافات الإخراجية التي قدماها وحجمها. 

المهم في الموضوع أن خلدون المالح بقي ملازماً لدريد ونهاد في الأعمال التلفزيونية والسينمائية التي كان يتناوب على تأليفها كل من نهاد قلعي ودريد لحام والأديب الكبير محمد الماغوط... وبحسب ما ذكر لي المخرج هيثم حقي، فإن خلدون المالح ودريد لحام أسسا شركة إنتاج تلفزيونية في الثمانينات تحمل اسم (شمرا).. وفي التسعينات انفصلا واستقل كل منهما بشركته الخاصة، وبقي ‏المقر الرئيسي في (المزة - فيلات) لخلدون، وفيه مكتبه، وغرف العمليات ‏الفنية، وبالمناسبة خلدون المالح كان من أوائل الموزعين السوريين ‏للمحطات الخليجية التي بدأت بالظهور في السبعينات، وكان ‏مستشاراً للعديد منها، وعلاقاته تلك أهّلته لعمل الموزع الناجح. ‏

كان نهاد قلعي، بوصفه كاتباً تلفزيونياً، شديدَ التأثر بالكاتب الإذاعي المبدع حكمت محسن، قادراً على رسم أجواء من السهل الممتنع تُمَكّنُه من ‏السير، ببراعة، على الخط الفاصل بين كوميديا الموقف والكوميديا المُفْتَعَلة ‏‏(الفارْس) ‏والقاسم المشترك بينهما هو اختراع الكاراكترات الكوميدية، وخلال مسيرته الإبداعية ابتكرَ، إضافة إلى شخصيتي غوار وحسني، كلاً من عبدو، وأبي عنتر، وياسين، وفطوم حيص بيص، وأبي جاسم، وأبي رياح، وبدري بيك أبو كلبشة، عدا عن استعانته بكاراكترات كان قد أبدعها حكمت محسن في الإذاعة، كأبي فهمي، وأبي صياح، وأبي رشدي، وأم كامل.

إن المرء، من جهة أخرى، لا يستطيع أن يستوعب بسهولة مقدارَ الجهد الذي كان المخرج خلدون المالح يبذله في إدارة فريقه الفني. ففي تلك الأيام كانت الحلقةُ التلفزيونية تُصَوَّرُ كلها، دفعة واحدة! فإذا ارتكب أيُّ ممثل، أو عامل فني، خطأ لفظياً أو حركياً واحداً، يُضطر لإيقاف التصوير، ليعاودَ الفريقُ كله تمثيل الحلقة وتسجيلها.
إن سر نجاح خلدون المالح، برأيي، أنه كان يُخرج أعماله بطريقة السهل الممتنع نفسها، وبالسير على الخط الفاصل بين الكوميديا والفارس، ومن دون أية فذلكة، لأنه كان يهتم لنجاح العمل الفني أكثر مما يهتم لتأطير اسمه وترويجه.
الرحمة لروح خلدون المالح.
المساهمون