خطورة إلغاء مجانية التعليم

06 ابريل 2016
+ الخط -
صدرت، في الفترة الأخيرة في المغرب، تصريحات منسوبة إلى مسؤول في الحكومة، عبّر فيها عمّا وصفه بأنه رأيه، يعتبر فيه أنه آن الأوان لأن تضع الدولة حدّاً لمجانية التعليم، وآن لخصخصة قطاع الصحة. وقد دافع الوزير، صاحب هذه التصريحات، عن رأيه بأن التعليم والصحة يستنفذان إمكاناتٍ ضخمةً من خزينة الدولة سنوياً، وكلاهما يعانيان من فشلٍ كبير. ولذلك، يعتقد الوزير، أن توجيه ميزانيتهما إلى الاستثمار سيكون مجدياً لاقتصاد البلاد، وخصخصتهما ستحسن من جودتهما، وترفع من أدائهما.
هذا منطق رجل الأعمال، وليس منطق رجل السياسة. والوزير صاحب هذا المنطق هو فعلاً رجل أعمال، ومن أثرياء المغرب المسجلين على قائمة "فوربيس"، أُقْحِم في "السياسة" إقحاماً.
وعلى الرغم من نفي أعضاء في الحزب الذي يقود الحكومة، وفي وقتٍ لم يصدر فيه عن الحكومة نفسها ما يوضح موقفها الرسمي من "رأي" أحد أعضائها، فإن كثيرين اعتبروا هذا "الرأي" بمثابة "بالون اختبار" لما يُطبخ على نارٍ هادئة. فصاحب هذا الرأي هو من الوزراء "النافذين" المقرّبين من الدوائر العليا للقرار في المغرب. وهو أيضاً صاحب طموحاتٍ استثماريةٍ كبيرة في قطاع الصحة، وغير مستبعد أن تكون له طموحات مماثلة للاستثمار في قطاع التعليم.
تكلف ميزانية التعليم خزينة الدولة المغربية سنوياً ما يعادل 45 مليار درهم (نحو 450 مليون يورو)، أي أكثر من سدس ميزانية المغرب سنوياً، ويقدّر موظفو هذا القطاع بنحو ربع مليون موظف، ما يجعل قطاع التعليم يستوعب أكبر عدد من الموظفين الذين يفوق عددهم عدد أفراد قطاع الجيش والأمن بكل تفرعاته.
ومنذ استقلال المغرب، قبل أكثر من نصف قرن، اعتمدت الدولة المغربية مجانية التعليم سياسةً وطنيةً للنهوض بالاقتصاد الوطني المغربي، ولإعطاء أبناء الوطن فرصاً متساويةً في ارتقاء السُّلم الاجتماعي. لكن، أمام تراجع مستوى التعليم العمومي، بدأت الدولة، منذ سنوات، تشجع الاستثمار في هذا القطاع.
وعلى الرغم من "القيمة المضافة" التي قدمتها بعض المدارس الخاصة، من حيث جودة تعليمها، أو مساهمتها في التخفيف من العبء الكبير الذي كان يقع على القطاع العام، إلا أنها لم تفلح في التخفيف من "ثقل" الميزانية التي ما زال يستنفذها هذا القطاع، بسبب فسادٍ مستشرٍ داخل إدارته العمومية، كما لم تكن لها أية انعكاسات واضحة، للتخفيف من حالة الاكتظاظ التي تعاني منها كثيرٌ من فصول الدرس في المدارس العمومية، والتي قد يتجاوز عدد تلاميذ الفصل الواحد منها 70 تلميذاً في الفصل المخصص لاستيعاب أقل من 30 تلميذاً.
في المقابل، ساهمت هذه المدارس في تشجيع نوع جديد من "اقتصاد الريع"، بما أن الدولة، وفي إطار تشجيع التعليم الخاص، منحته امتيازاتٍ كثيرة، لعل أهمها إعفاؤه من الضرائب، ما حوّل "الاستثمار" فيه إلى نوع "الامتياز" الذي يمنح للشخصيات النافذة وللمقربين، وجعله مجالاً مفتوحاً للمضاربة والمحسوبية والزبونية والفساد بكل أنواعه.
يضاف إلى هذا، أن بعض مدارس التعليم الخصوصي تحوّلت إلى سلم للارتقاء الاجتماعي،
لكنه ارتقاء "تمييزي"، لا يستطيع أن يرتقي مدارجَه إلا من تتوفر أسرهم على الإمكانات المادية لفعل ذلك. وهو بذلك ساهم في تكريس نظرةٍ "دونيةٍ" إلى مدارس التعليم العمومي التي تحولت "مشتلاً" لإنتاج الفشل، وما يتبعه من انحرافٍ وتطرف. وبذلك، تخلت المدارس العمومية عن الهدف النبيل الذي من أجله تم تعزيز مجانية التعليم، وهو منح أبناء الشعب الحق في المساواة وتكافؤ الفرص، لتتحول إلى "ماكينةٍ" لإعادة إنتاج الفشل الاجتماعي، وتكريس طبقيةٍ مقيتةٍ بين أبناء المجتمع الواحد.
هذا الوضع الكارثي للتعليم العمومي الذي أصبح يُخرّج أشباه المتعلمين، ويغادره سنوياً نحو ربع مليون تلميذ، من دون أن ينهوا دراستهم الإعدادية، وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسين سنة على اعتماد مجانيته، فما زال نصف المغاربة أميين.. تعليم بكل هذه النتائج السلبية هو الذي يشجع المطالبين بإلغاء مجانيته على رفع أصواتهم اليوم. لكن، هل الحل في إلغاء مجانية التعليم؟ بعيداً عن شعارات المعارضين لأي مسٍّ بمجانية التعليم، على اعتبار أنه من مكتسبات الشعب، ومن واجبات الدولة تجاه رعاياها، إلا أن خطورة المطالبة بإلغاء مجانيته تكمن في ما هو مسكوت عنه من رفع هذا المطلب. فإذا كانت دول متقدمة وغنية، مثل الدول الاسكندنافية، لم تلغ مجانية التعليم، على الرغم من قدرة مواطنيها على إرسال أبنائهم إلى مدارس خاصة، لأنها تعتبر أن التعليم والصحة وبعض الخدمات الاجتماعية تبقى من مسؤولية الدولة تجاه رعاياها، فكيف يمكن تصوّر نجاح مجانية التعليم في دولةٍ مثل المغرب، 10% من سكانها دون عتبة الفقر، وثلثهم من الفقراء؟
خطورة مثل هذه المطالب في الجشع الذي يحرّك أصحابها لتحويل التعليم، باعتباره حقاً أساسياً من حقوق المواطن على دولته، إلى سلعةٍ للاستثمار والربح السريع. لكن، هناك، ما هو أخطر من مثل هذه المطالب، وهو تكريس نوعٍ من الطبقية التي ستقسم المجتمع مستقبلاً إلى طبقتين اجتماعيتين اثنتين فقط، أبناء المتعلمين، وهي الأقلية التي ستفتح أمامها أبواب الارتقاء الاجتماعي للتحكّم في رقاب العباد وأرزاقهم، وطبقة واسعة من أبناء الفقراء الذين سيحكم عليهم بالبقاء في قاع المجتمع، يتطاحنون فيما بينهم، يقتلهم جهلهم. وهنا، خطورة المطالبة بإلغاء مجانية التعليم، لأنها، ببساطةٍ، تعني وضع المجتمع على أبواب حربٍ طبقيةٍ طاحنةٍ آتيةٍ لا تبقي ولا تذر.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).