خلافاً لما جرى الترويج له في الأيام الأخيرة، بدا خطاب وزير الخارجية الأميركية جون كيري، أمس الأربعاء، حول الملف الفلسطيني الإسرائيلي أقرب إلى حلقة أخرى وأخيرة، في مسلسل التراشق الأخير بين الإدارة الأميركية ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حول قرار مجلس الأمن بشأن المستوطنات.
تراشق بخليط من العتب والمرارة، لم يتعد سقف العراك، الشخصي غالباً، بين أهل البيت، لا شك أنه ترك بعض الرضوض، كما أعطى شحنة إضافية للجدل المتزايد، خصوصاً في صفوف اليهود، حول تردي العلاقة بين إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما ونتنياهو وانعكاساتها المحتملة، على الساحتين الأميركية والدولية.
لكن هذا التلاسن يبقى تحت السيطرة، خصوصاً أن إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب المقبلة كفيلة بتضميد الخدوش، كما أن كيري، برغم مرارته، لم يخرج في كلمته عن المألوف، لا في دفاعه عن موقف الإدارة من قرار مجلس الأمن، ولا في عرضه الخجول لموضوع المستوطنات ودورها في نسف المساعي لحل الدولتين.
بشأن القرار، بدا شرح كيري أقرب إلى الاعتذار، مع أن القرار لم يأت بجديد، كما قال هو تجسيد لموقف أميركي متوارث، جرى التعبير عنه في قرارات دولية سابقة، ومع ذلك امتنعت الإدارة عن التصويت، ولا تفسير سوى أنها تهيّبت إغضاب إسرائيل.
صحيح أن القرار رأى بأن المستوطنات تفتقر "للشرعية القانونية"، لكن واشنطن اعتبرتها ومنذ عقود، بأنها "غير شرعية"، وهو تصنيف مرادف وإن بصورة مبطّنة لعبارة "غير قانونية"، التي كان من المفترض اعتمادها منذ زمن في الحديث عن المستوطنات.
أما بخصوص هذه الأخيرة، فقد ناقض كيري نفسه، أيضاً لتحاشي خدش مشاعر إسرائيل؛ ولو أنها "ترفض دروسه باعتبارها صادرة عن بلد أجنبي"، كما قال نتنياهو في رده على خطاب الوزير.
فمن جهة يعترف كيري بأن إسرائيل "خردقت" الضفة بالمستوطنات بحيث صارت "مثل الجبنة السويسرية" وبما يهدف إلى نسف حل الدولتين. ومن جهة ثانية يقول إن الاستيطان ليس السبب الرئيسي لفشل مساعي السلام.
الفشل من منظوره، يتحمل مسؤوليته الجانبان، أي يستوي في ذلك الاحتلال والواقع تحت نيره. وانطلاقاً من هذه المعادلة يصبح عنف الجانب الثاني المتقطع بكل حال، بمثابة فعل حسب كيري؛ وليس رد فعل على الأول، مع أن الوزير يسلّم بأن ضغوط الاحتلال تستولد العنف.
يقود هذا التشخيص إلى المقولة التي اختبأت خلفها واشنطن من البداية، والتي كررها كيري اليوم مرة أخرى، وهي أن "الحل بيد الطرفين" عبر التفاوض المباشر، وأنه ليس بوسع الولايات المتحدة ولا برغبتها "فرض حل" عليهما، نسخة طبق الأصل عن الطرح الإسرائيلي.
وطالما بقيت إسرائيل تسمع من واشنطن هذه المعزوفة، بقيت مطمئنة لحمايتها مهما بلغت لغة التراشق بينهما من خشونة، وكأن كيري لا يعرف ماذا جاءت به مفاوضات أكثر من عشرين سنة تحت هذا الشعار.
خلاصة مطالعة كيري أن سياسة الإدارة، وضمناً الإدارات السابقة التي اعتمدت هذا التوجه، لم تفشل، الفشل كان نتيجة لمواقف أصحاب العلاقة، وضمناً هو نتاج فلسطيني "نقصته الليونة"، وهنا بيت القصيد ومكمن العطب الجوهري.
كل ما قاله كيري وقبله أسلافه الكثيرون، محتوم فشله، لأنه يدور في فلك حل خيالي يجري تلميعه ولو بصدق لترويجه، لكن بلا جدوى كما ثبت، طالما أن مقوماته وشروطه الأساسية غير متوفرة، عامل القوة الطاغية التي وفرتها أميركا لإسرائيل يحول دون تحقيق المطلوب.
ومن دون تعديل هذا الخلل، لا مجال لحمل محتل مثل إسرائيل على التزحزح، حقيقة يعترف بها كثيرون في واشنطن، منهم من صارح بها مثل المستشار السابق للرئيس جيمي كارتر، زبغنيو بريجنسكي، الذي قال إن "إسرائيل قوية جداً لا تعطي، والجانب الفلسطيني ضعيف جداً لن يقوى على الأخذ. المطلوب أن تتقدم واشنطن بمشروع حل مفصّل وتطلب تطبيقه"، أي تفرض تطبيقه. كيري يعرف ذلك، لكنه لا يقارب المشكلة من هذه الزاوية، خطابه كان من الصنف السياسي الوداعي، وليس عرضاً لسياسة بديلة.