خطاب الأسد.. رئيس صالح لشعب عاطل

27 فبراير 2019
+ الخط -
بعد ثماني سنوات من الموت والدمار وصنوف البؤس كافة، وبعد أن وصلت نسبة السوريين الذين يعيشون في حالة فقر إلى 85%، بحسب تقارير الأمم المتحدة، وبعد دمار أو تضرّر حوالي ثلث المباني، ونصف المباني المدرسية والمستشفيات، بحسب تقارير البنك الدولي، وبعد وصول المجتمع السوري إلى حضيضٍ من الإنتاج الاقتصادي، وحضيض من الانقسام الطائفي، ومن الفلتان الأمني وانتشار الجريمة، وبعد أن أصبح السوري مشرّداً ومنبوذاً في كل مكان، بما في ذلك داخل بلده، وبعد أن أصبحت سورية ملعباً للدول الصغرى منها والكبرى، لا يتردّد الأسد في القول: "ما أريد التأكيد عليه إنه لم تكن ممكنة حماية الوطن من السقوط في المحرقة التي حضرت له، لولا الإرادة الشعبية الواحدة عبر مختلف أطياف وشرائح المجتمع السوري". الوطن إذن، بعد هذا كله، لم "يسقط في المحرقة". من الواضح أن الأسد يريد القول "حمايتي من السقوط في المحرقة"، السقوط في المحرقة في نظره لا يتعلق بكل ما مرّ ويمر على سورية من مآس وكوارث، إنه يعني فقط تفكيك نظام حكمه.
في مكانٍ آخر من خطابه، وفي معرض حديثه عن اللجنة الدستورية، يفاجئنا الأسد بالقول إن هناك من الشعب السوري من "يعارض الدولة"، فيتكلم عن "الجانب الآخر من الشعب السوري الذي لا يوافق على وجهة نظر الدولة"، لكي يقول إن الثلث "المعارض" من لجنة صياغة الدستور المقترحة لا يمثلون هذا الجانب، وهم "طرفٌ عميل" لا أكثر. نحن لا ندافع عن هذا الطرف، وسوريون كثيرون لا يجدون في هذا الطرف ممثلاً لهم، ويُدركون أن مؤسسات 
المعارضة السورية لا تملك من أمرها الكثير، تماماً كما لا يملك نظام الأسد من أمره الكثير، لكن لا يقول لنا الخطاب كيف يمكن، إذن، تمثيل "هذا الجانب من الشعب السوري الذي لا يوافق على وجهة نظر الدولة"؟ وأين هو من يمثله؟ وهل يمكن، في دولة الأسد، أن يوجد ممثلٌ لجانب من الشعب السوري "لا يوافق على وجهة نظر الدولة"، من دون أن يكون عميلاً؟
قد يستغرب المرء كيف يفسح منطق الأسد مكاناً لوجود "هذا الجانب من الشعب السوري"، ولكن القصد من قوله هذا لم يكن إقراراً بحقيقة وجود انقسام سياسي في المجتمع السوري، بل القصد هو تجريد المعارضين (هكذا بالجملة ومن دون تحديد ومن دون حتى ذكر المفردة المرذولة نفسها) من أي تمثيل، تمهيداً لوصفهم عملاء. لا بأس، طبيعي أن يكون هناك انتهازيون وفاسدون وعملاء في أي حركةٍ سياسيةٍ، وطبيعي أن يكثر هؤلاء حين تتعرّض الحركة السياسية المعارضة إلى آلة إنكار وإبادة سياسية وفيزيائية، كما شهدنا في سورية، وطبيعي أن تتوفر في صفوف هذه الحركة كل صنوف القذارات السياسية. ولكن تماهي الحركة بهؤلاء الأشخاص يعني أنك ضد معنى الحركة أصلاً، ولست ضد الأشخاص القذرين فيها، بل يعني أنك أقرب إلى هؤلاء الذين يتيحون لك، بقذارتهم السياسية، أن تستخدمهم وتعمّم صورتهم، لطمس معنى الحركة المعارضة بالجملة، ويعني أخيراً أنك تهييء الوطن "لمحرقةٍ" مستمرة.
يستنفر خطاب الأسد اللغة لاحتقار السوريين، والحط من قيمتهم، سواء من منهم في صف "الإرادة الواحدة" أو من منهم في الصف الآخر المرذول. لا يوفر الخطاب مفردة سيئة: "سماسرة، رخيصون، خونة، ازدراء، احتقار، غدر، غش، نفاق، عميل، مرتزق، نفوس مريضة، حقد، جهل، فساد، قلة أخلاق، أنانية، ذل، هوان .. ". أن تأتي هذه المفردات على لسان أعلى سلطةٍ في النظام هذا يعيد التأكيد، لمن لا يزال بحاجةٍ إلى تأكيد، على أنه لا اندمال للجرح السوري في استمرار نظام الأسد الذي لا يكفّ عن زرع الشقاق في صفوف الشعب، والاستثمار في هذه الشروخ.
لدينا، في الداخل، "الفساد والتعدّي على حقوق الآخرين والأنانية والغش والأمور التي نعيشها جميعاً"، وفي الخارج لدينا الخونة.. إلخ، ولكن هذا لا يمنع الأسد، مع ذلك، من القول إن "الانقسام الاجتماعي الحقيقي في سورية غير موجود"، أي إن الانقسام الذي جعل السوريين على ضفتي حربٍ مدمرةٍ لم تنته (كما يصر الأسد بحق)، وستستمر إلى أجل غير معلوم، لا بل إنها أنجبت حروباً عديدة يعدّدها الأسد كما يلي: العسكري، والحصار، والإنترنت، والفساد، نقول إن الانقسام الذي ولّد كل هذا الصراع هو، في نظر الأسد، زائف وغير موجود، لأنه لا يرى في الواقع إلا من هم في صفّه، أي "الطرف الوطني" الموحد حول قيادته، والذي ينبغي له أن يشقى ويجوع من دون أن يشكو، لكي لا يسقط الوطن في "المحرقة". أما من هم في غير صف الأسد، فهؤلاء غير مرئيين، ولا ينبغي لحذفهم من الصورة أن يُزعج أحداً، لأن في حذفهم تطهيرٌ للوطن. هكذا إذن تكون الإرادة واحدةً، لأننا لا نرى إلا إرادة من هم معنا.
يتقدّم الأسد خطوة أخرى في عرضه تصوره عما جرى في البلد خلال السنوات الماضية، فيقول: "الحرب كانت بيننا نحن السوريين وبين الإرهاب حصراً". "نحن السوريين" ضد "الإرهاب"، هذه هي معادلة الصراع في السنوات الماضية إذن. الأسد هنا يجمع كل المعارضة السورية بكل تلاوينها، ويضعها في خانة الإرهاب مجرّدة من الجنسية السورية، ليضعها مقابل 
"نحن السوريين". لا وجود لألوانٍ سياسية في المعارضة، لا وجود لقمعٍ سياسي متواصل ضد معارضين سوريين، لا وجود لاحتكارٍ للسلطة والثروة، لا وجود للذل الذي وصل بالسوريين إلى حد طلب الموت بدلاً عنه. في نظر الأسد، لا يوجد معارضون سوريون ديموقراطيون علمانيون، حريصون على شعبهم، وكانوا يرون، منذ زمن بعيد، إن الأسد يقود البلد إلى "المحرقة"، ولا يوجد معارضون يعملون لإخراج وطنهم من المحنة التي أوصله إليها نظام الأسد. ما يوجد هو فقط، وبكل بساطة، "نحن السوريين" ضد "الإرهاب".
كل من هو خارج (نحن) ليس إلا عميل ومرتزق وخائن ..إلخ، لكن الأسد لا يوفر هذه الـ"نحن" من التوبيخ، لأن "الحقيقة تقول إن هناك حربا وإرهابا وحصارا، وهناك قلة أخلاق وأنانية وفسادا". ماذا لنا أن نفعل أمام شعبٍ تتناهبه الخيانة والسمسرة والانتهازية والعمالة من جهة، والأنانية والفساد وقلة الأخلاق من جهة أخرى؟ لن نجد أمامنا سوى الحل الوحيد الذي يقترحه الأسد، وهو "إعادة إصلاح النفوس المريضة وتطهيرها من الحقد والجهل وزرع القيم والأخلاق فيها، وتنقيتها من شوائب الانهزامية وتشريبها بالمفاهيم الوطنية" و"إعادة بناء العقول وإصلاح النفوس".
ليس اليوم هو مجال إصلاح النفوس، لأن "التحدّي الأساسي الآن هو تأمين المواد"، كما يؤكد الأسد. الشعب جائع، وهناك نقص في الغاز والوقود وغيرها من المواد، ولا وقت الآن "للتربية الوطنية". الخطة إذن هي تكريس النفس لخوض الحروب الأربع، ثم بعد الانتصار (هل يمكن الانتصار بالنفوس المريضة والعقول التي تحتاج إلى إعادة بناء؟) سوف يتفرّغ الرئيس الصالح لإصلاح نفوس شعبه العاطل وعقوله.
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.