خصوصية الجيش التونسي
إثر انهيار نظام الرئيس زين العابدين بن علي، بدا أن المشهد السياسي في تونس يسير، بخطى حثيثة، إما نحو الفوضى (اضطرابات في كل المناطق، ومدارس مغلقة، ومصالح اقتصادية وإدارية معطلة ..)، أو نحو الانقلاب، وتولي العسكر السلطة، من أجل ضبط الأمور. وفي خضم أحداث اعتصام القصبة الأول (أمام مقر رئاسة الحكومة)، ظهر رئيس أركان الجيش التونسي، حينها (الجنرال رشيد عمار)، ليعلن لجمهور الشباب المعتصم الغاضب "الجيش حامي هذه الثورة"، وحين سأله أحد المتظاهرين عن الضمانات، رد الجنرال "أنا هو .. أنا هو". كان ذلك في 23 يناير/كانون الثاني 2011.
والآن، بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على هذا التصريح، وبعد التقلبات السياسية والأمنية في البلاد، هل أوفى الجيش التونسي بوعده؟ وما هي خصوصية العسكر في تونس، مقارنة بغيرهم في البلدان العربية؟
تاريخياً، لم يكن الجيش التونسي من الجيوش ذات العقيدة المُسيسة على النحو الذي نجده لدى جيوش الأنظمة العربية الأخرى، وهذا يعود، في قسم منه، إلى حرص النظام، ومنذ قيام الجمهورية على تحييد الجيش، وإضعافه ومنعه من التحول إلى قوة ضاغطة، أو وازنة، فمنذ المحاولة الانقلابية لسنة 1961 التي تورط فيها مقاومون وشيوخ دين، والأهم عسكريون ينتمون للجيش الحديث الولادة، كان الحبيب بورقيبة، الحاكم المطلق للبلاد، يتوجس خيفة من العسكرتاريا، خصوصاً في ظل ما يراه من انقلابات عسكرية متتاليةٍ في المشرق العربي.
وعلى هذا، تم استبعاد الجيش وضمان ولائه، بمنعه من التحول إلى مؤسسة قوية ذات مؤسسات ومصالح، على النحو الذي نلاحظه في مصر. ظل النظام يستفيد من العناصر العسكرية، ويقوم بإدماجها في مؤسسات مدنية، أو أمنية خصوصاً، وهذا ما يفسر وصول شخصية مثل الرئيس المخلوع بن علي الذي كان عسكرياً، ترقى في سلم الجهاز الأمني، وتحول إلى العمل السياسي في ظل صراعات الأجنحة في فترة الضعف البورقيبي، وتحوله إلى الرجل المريض للنظام التونسي.
وبعد تولي بن علي السلطة، في انقلاب قطع به الطريق على انقلاب مرتقب، كانت تعد له
الحركة الإسلامية، افتتح عهده (نوفمبر/تشرين الثاني1987) باعتقالات في صفوف المؤسسة العسكرية (ما كان يعرف بالمجموعة الأمنية)، أسفرت عن تسريح أفراد من العسكر، ووفاة بعضهم تحت التعذيب (الرائد محمد المنصوري مثلاً). وبعدها بمدة وجيزة، أي سنة 1991، قام بن علي بضربته الثانية ضد العسكريين، واستغل فرصة صراعه مع الإسلاميين، للقيام بعملية تطهير للجيش من كل العناصر المهنية، أو التي يخشى من نفوذها. ومن هنا كانت مؤامرة "براكة الساحل" المفبركة (هذا الاسم يتعلق بمدينة صغيرة ادعى نظام بن علي أن اجتماع العسكريين تم فيها للتآمر)، وتمت عملية تصفية منهجية لعناصر عسكرية، وسجنها، أو إحالتها إلى التقاعد الوجوبي.
أما التصفية التالية، فتمت سنة 2002، في عملية تصفية مريبة لأهم قيادات الجيش التونسي، ومنهم رئيس هيئة الأركان، الجنرال عبد العزيز سكيك، في انفجار مروحية عسكرية في ظروف غامضة.
كان من الممكن أن يتولى الجيش السلطة بعد فرار بن علي يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011، خصوصاً في ظل دعوات متوالية للانقلاب، من قيادات سياسية، وعناصر النظام السابق الذين كانوا يخافون من لحظة المحاسبة، وهنا، جاء تعهد قيادة الجيش بالدفاع عن الثورة وحماية المسار الديمقراطي. وقد تمكن الجيش التونسي من اكتساب ثقة الشعب واحترامه الواسع، خصوصاً بعد أن ساعد على إتمام أول انتخابات تعددية في تاريخ تونس (23 تشرين الثاني/أكتوبر)، ومن ثم إلى القبول بعملية التداول السلمي على السلطة، وتولي الترويكا دفة الأمور في البلاد، وصولاً إلى تشكيل حكومة التكنوقراط. كان موقف الجيش التونسي استثنائيا بكل المقاييس، خصوصا إذا استذكرنا موقف الجيش المصري سنة 2013، وانقلابه على المسار الديمقراطي، وجره البلاد إلى حالة من عدم الاستقرار، خلفت آلاف القتلى والمعتقلين، وهو ما مثل انتكاسةً حقيقيةً للثورة المصرية، وعجزها عن تحقيق أهدافها وإتمام غاياتها التي قامت من أجلها.
ربما يعود هذا، في جانب منه، إلى استئثار العسكر في مصر، تاريخياً، بحكم البلاد، وتمتعهم بنفوذ واسع، يتداخل فيه العسكري بالأمني والاقتصادي بالسياسي، ولن يكون يسيراً على أي حاكم مصري مستقبلاً أن يحجم دور الجيش، إلا بعد سنوات قد تطول أو تقصر، إلى حين تحوله إلى جيش جمهوري، أعني حامياً للوطن والجمهورية، وليس صانعاً للرؤساء، ومحدداً الأدوار في المشهد السياسي، أو مقارنة بجيوش عربية أخرى، فالجيش الليبي زمن معمر القذافي بدا ممزقاً، يفتقر إلى الوحدة، وإلى القدرة على الحسم في ظل هيمنة كتائب ولاؤها للحاكم، ما أفضى به، في النهاية، إلى التفكك. وكذلك سورية، فالجيش هناك تتم تربيته على الولاء لحزب البعث، وتحديدا لعائلة الأسد. وبقي النموذج الجزائري، حيث شهدت البلاد ثورة شعبية عارمة سنة 1988، وانتخابات برلمانية ناجحة، تم الانقلاب عليها، وليصبح العسكر الحاكم الفعلي الذي يعين الحكومات ويقيلها، ويمارس صلاحيات واسعة، لا يتمتع بها الرئيس المنتخب نفسه. ويظل الجيش التونسي الاستثناء، فهو، إلى اليوم، يكشف عن وعي وطني عالٍ، وحس مدني رفيع، بضرورة الحفاظ على أسس الجمهورية، من خلال مؤسسات ديمقراطية وتعددية، على الرغم من تعرضه لهجمات الجماعات الإرهابية، وأحيانا للتشكيك فيه من أصوات إعلامية نشاز في تونس، ما يجعلنا نصدق ما قاله الجنرال رشيد عمار، في بداية الثورة "الجيش يحمي البلاد والعباد ويحترم الدستور"، وهو أمر، لعمري، علامة على المسار الصحيح الذي تسير فيه ثورة تونس، وضمانة لها من كل الانتكاسات والارتكاسات وحالات الفوضى والفراغ.