خلال فصل الخريف، في السودان، تهطل الأمطار غزيرة. لكنّ هذا العام كان استثنائياً، الأمر الذي خلّف أضراراً مادية وخسائر في الأرواح.
تتزايد المخاوف في السودان من كارثة حقيقية تتسبّب بها الأمطار وما خلّفته من سيول أدّت إلى فيضانات اجتاحت ولايات عديدة في خلال الأسابيع الماضية وقتلت عشرات الأشخاص وأصابت آخرين بجروح وشرّدت آلاف الأسر من بيوتها، في ظروف مناخية سيّئة ومع احتمال انتشار أمراض معروفة في مثل هذا الموسم. عثمان محمد عثمان من السودانيين الذين وجدوا أنفسهم في العراء، بعدما اجتاحت سيول جارفة قريته شقيل عدلان الواقعة بولاية الجزيرة فشرّدت أسرته وكذلك أسرة شقيقه في الأيام الماضية. فمنزله المتواضع انهار كما هي حال أكثر من 20 منزلاً آخر من منازل القرية التي تضمّ نحو 300 منزل. يقول عثمان لـ"العربي الجديد" إنّ "وضع الأهالي سيئ جداً وهم يعيشون ظروفاً تُعَدّ الأسوأ في حياتهم"، لافتاً إلى أنّ "أطفالي وأطفال شقيقي يعانون التهابات رئوية نتيجة بقائنا في العراء لفترة طويلة". ويوضح أنّ "القرية عُزلت كلياً عن العالم فيما الوصول إلى أقرب مركز صحي يحتاج ساعات من السير على الأقدام"، مضيفاً أنّ "ثمّة امرأة في القرية شعرت بدنوّ موعد وضعها ولدها، لكنّه توفي فور ولادته بسبب وصولها متأخرة إلى المركز الصحي في مدينة ودرواة القريبة". ويعبّر عثمان عن أسفه الشديد "لعدم التفات الجهات الحكومية إلينا وتقديم يد العون لنا. فنحن اعتمدنا فقط على دعم غذائي من القرى المجاورة"، مشدداً على "حاجتنا الماسة إلى خيام وإلى مياه شرب نقيّة".
وآلاف الأسر السودانية تعاني في ولايات مختلفة شهدت أمطاراً غزيرة فاقت المعدّل الطبيعي هذا العام، تماماً كما عائلة عثمان. وتأثير ذلك لم يطاول فقط المنازل وأهلها، بل امتدّ كذلك إلى النشاط الاقتصادي، علماً أنّ سبع ولايات تضرّرت أكثر من سواها، وهي الخرطوم والجزيرة (وسط) والبحر الأحمر وكسلا (شرق) وشمال كردفان وغرب والنيل الأبيض وسنار (جنوب).
منير هاشم من قرية شقيل عدلان نفسها، يقول لـ"العربي الجديد": "نحن نعتمد في الأساس على الزراعة، لكنّنا لم نتمكّن من الزراعة هذا الموسم بسبب انشغالنا بالخراب الذي حلّ بالقرية والذي طاول خدمات من قبيل المياه والكهرباء وغيرهما". يضيف أنّ "أكثر ما يزعجنا هو انتشار الذباب بكثافة في القرية، الأمر الذي يهدّدنا بأمراض عدّة، لا سيّما في غياب حملات رشّ المبيدات"، مطالباً "الدولة ومنظمات المجتمع المدني بالتدخّل سريعاً وإنقاذ ما يمكن إنقاذه".
تفيد بيانات رسمية صادرة عن وزارة الصحة السودانية بأنّ 46 شخصاً لقوا حتفهم من جرّاء الفيضانات التي اجتاحت البلاد في خلال الأيام الماضية بالإضافة إلى إصابة 97 آخرين. كذلك أعلنت الوزارة عن انهيار نحو تسعة آلاف منزل بشكل كامل و14 ألفاً بشكل جزئي، بالإضافة إلى انهيار 3148 مرحاضاً بشكل كامل و2500 بشكل جزئي، فضلاً عن نفوق 3137 رأساً من الماشية.
وفي السياق، صرّح وكيل الوزارة سليمان عبد الجبار بأنّ عدد الأسر التي تضرّرت من جرّاء السيول بلغ 16 ألف أسرة على مستوى الولايات، فيما تأثرت 16 ولاية من 18 ولاية و56 محلية و202 قرية وفريق وحيّ بالأمطار في الفترة الممتدة من 14 يونيو/ حزيران الماضي و16 أغسطس/ آب الجاري. وأوضح عبد الجبار أنّ ولاية الخرطوم هي أكثر الولايات تضرراً من جرّاء الأمطار، خصوصاً مناطق جنوب الحزام، وقد وصل عدد المنازل المنهارة فيها بالكامل إلى ألف منزل، لافتاً إلى أنّ احتياجات المتضرّرين تنحصر بالخيام والمشمّعات والغذاء والمياه النقية والمراحيض بالإضافة إلى توفير خدمات علاجية.
أمّا في ولاية النيل الأبيض، فالكارثة لا تقلّ مأساوية، إذ إنّ أكثر من خمسة آلاف منزل انهارت في محلية السلام، بالإضافة إلى تضرّر نحو 80 قرية. ويقول المواطن عقيد محمد من هناك، عبر اتصال هاتفي مع "العربي الجديد": "نحن أمام كارثة إنسانية وكارثة بيئية حقيقيتَين. والأهالي هنا لجأوا إلى مقار المدارس بعد إخلائهم منازلهم، خصوصاً في مناطق الراوات والسويلك والقليعة وضراع الوحيد". من جهته، أعلن والي النيل الأبيض المكلّف، حيدر الطريفي، استمرار عمليات الجسر الجوي لإغاثة المتضررين وإنزال مواد غذائية لهم في الولاية، مع توفير الاحتياطات الصحية والأدوية. وفي ولاية شمال كرفان، عرفت منطقة الحمرة ظروفاً صعبة من جرّاء الأمطار الغزيرة وما نتج عنها من سيول، إذ إنّ فرق الطوارئ لم تتمكّن من الوصول إلى نحو 600 أسرة عالقة هناك. ويشير علي حمدان، من الأهالي، لـ"العربي الجديد" إلى أنّ الوضع "في حاجة إلى تدخلات عاجلة ولو عبر الاستعانة بمنظمات دولية".
وبعد ساعات من إعلان وزارة الصحة في السودان بياناتها، طاولت سيول جارفة مدينة الجيلي الواقعة شمال الخرطوم، أوّل من أمس الاثنين، فتضرّر نحو 750 منزلاً بحسب ما يقول عقيل أحمد وهو من أهل المدينة. ويوضح أحمد لـ"العربي الجديد" أنّ "السيول بدأت تتدفّق إلى المدينة في الساعات الأولى من الصباح، فلجأ الأهالي إلى أربع مناطق مرتفعة"، مؤكداً أنّ "المنطقة سوف تحتاج في الأيام المقبلة إلى إعانات غذائية ومستلزمات خاصة بالإيواء والرعاية الصحية".
وكانت جمعية الهلال الأحمر السوداني قد أعلنت أنّها وزّعت في ولاية شمال كردفان مساعدات غذائية لنحو 4500 أسرة تكفي لمدّة شهر بالتعاون مع برنامج الأغذية العالمي، إلى جانب مستلزمات خاصة بالإيواء للعدد نفسه بالتعاون مع وكالات الأمم المتحدة المتخصصة. ويقول المتحدث باسم الجمعية هيثم إبراهيم لـ"العربي الجديد"، إنّ "الأوضاع في السودان في ما يتعلق بآثار السيول والأمطار ما زالت تحت السيطرة. وهي لا تحتاج حتى الساعة، على أقل تقدير، إلى تدخّل إنساني دولي، خصوصاً إذا تضافرت جهود الدولة مع جهود المنظمات الوطنية ووكالات الأمم المتحدة العاملة في البلاد". ويحذّر إبراهيم من "الآثار المتوقعة للأمطار والسيول في الفترة المقبلة، لا سيّما الأضرار البيئية والصحية"، مشدّداً على "ضرورة القيام بحملات واسعة لرشّ المبيدات وتجفيف برك المياه حتى لا تنتشر الأمراض". ويدعو إلى "وضع استراتيجية شاملة لتدارك الأخطاء السنوية المتكررة في فصل الخريف بالسودان".
من جهتها ، دعت منظمات عمل تطوعي إلى تدخّل دولي عاجل لإنقاذ آلاف السودانيين في داخل الخرطوم وخارجها. وتقول مهجة أشرف من حملة "نفير" لـ"العربي الجديد" إنّ "الوضع لا يحتمل فنحن نتوجّه إلى كارثة حقيقية"، مشيرة إلى أنّ "عدداً من المنظمات المحلية تواصلت مع منظمات دولية لهذا الغرض، لكنّها رفضت التدخّل بحجّة أنّها لا تفعل ذلك إلا من خلال الحكومة السودانية". وتوضح أشرف لـ"العربي الجديد" أنّ "مبادرة حملة نفير التي تأسست في عام 2013 لتقديم الإعانات إلى المتضررين من الأمطار والسيول والفيضانات، سعت هذا العام إلى توفير المستلزمات الخاصة بالإيواء وكذلك الغذاء والمياه، ولا سيّما في المناطق الأكثر تضرّراً مثل جنوب الحزام ومناطق أخرى في النيل الأبيض". وتلفت إلى أنّ "الوضع في شمال الخرطوم هو الأسوأ بعد السيول الأخيرة، وثمّة حاجة ماسة إلى مركبات دفع رباعي حتى تتمكّن من الوصول إلى بعض المتضررين العالقين".