خدعة النسيان

18 ديسمبر 2014
لولا النسيان لما عشنا يوماً واحداً (Getty)
+ الخط -
دائما ما أنسى نهايات الأفلام السينمائية الرخيصة، وهو أمر ليس بالسيئ تماماً، فأنا أجد متعة في إعادة مشاهدتها مرات كثيرة، ومحاولة تذكر على ما ستنتهي، وأضحك في كل مرة، أو أبكي متأثراً بالنهاية المأساوية، أو ألعن، في سري، سذاجة المخرجين الذين يستخفون بي، لأنهم يعلمون بأنني لن أفعل شيئا آخر كلما سيطرت علي حالة مستعصية من الملل سوى اللجوء إلى ما يقدمونه، في محاولاتي للتغلب على استعصاء الملل، أتصورهم وهم يضحكون ضحكات شريرة ومستهزئة، حيث يهمس أحدهم للآخر: "مش قلتلك هيرجعلنا تاني"؟

أرجع في كل مرة لأنني لا أجد نفس المتعة في مشاهدة مباريات كرة القدم المعروفة نتيجتها سلفاً، فريقك الذي تشجعه سيهزم بهدف قاتل في الدقيقة السادسة والتسعين، وهو أمر من الصعب أن تنساه، بل سيظل محفوراً في ذاكرتك لمدة ليست بالقصيرة، حتى تستطيع أن تتجاوزه كمرارات طفولتك وصورك القديمة في فترة المراهقة، كسخافات الحب الأول، التي نسيتها هي، ولم تستطع أنت أن تتجاوزها، وظلت تطاردك في أحلامك لثماني سنوات حتى شفيت منها!

لولا النسيان لما عشنا يوماً واحداً بعد مشاهدتنا لكل هذه الحروب وبشاعاتها في نشرات الأخبار، فضلا عن معايشتها. بعد زيارة السجناء، وبعد أن نعتذر لكل هؤلاء الذين دسنا على أقدامهم في الزحام، ونفخنا دخان سجائرنا في وجوههم، بعد أن تأخرنا عن مواعيدنا وجعلناهم ينتظرون أن نظل أحياء بعد أن يصدنا من نحبهم.

هناك خدعة نمارسها يوميا لنظل على قيد الحياة ولا نموت، كموظف تشيخوف تماماً، الذي عطس في وجه الجنرال العجوز، "عطس كما ترون. والعطس ليس محظورا على أحد في أي مكان. إذ يعطس الفلاحون ورجال الشرطة، بل وحتى أحيانا المستشارون السريّون".

"الجميع يعطس، ولم يشعر الموظف بأي حرج، ومسح أنفه بمنديله، وكشخص مهذب نظر حوله ليرى ما إذا كان قد أزعج أحدا بعطسه. وعلى الفور أحس بالحرج. فقد رأى العجوز الجالس أمامه في الصف الأول يمسح صلعته ورقبته بقفازه بعناية ويدمدم بشيء ما". وهي اعتقادنا بأننا حين ننسى حماقاتنا وضعفنا فبالضرورة ينساها الآخرون ويتجاوزون عنها، أو يتفهمونها، يساعدنا ذلك على عدم الوقوع في عقدة الذنب والإحساس بالدونية، مع أن الأمر بتلك الطريقة قد لا يخلو من وقاحة قد تكون غير مقصودة، خاصة عندما تجد نفسك تردد كثيراً أنك آسف مثل الموظف المسكين الذي لم يتحلَّ بالشجاعة الكافية لينسى مثل الجنرال، وظل يعتذر له إلى أن مات تحت وطأة إحساسه بالذنب، بعد أن ضاق الجنرال به، وظن أنه يسخر منه.

تساعدنا خدعة النسيان على المقاومة، وتعطينا بعض الشجاعة المنقوصة للمبادرة والإلحاح، واقتحام الحياة دون الخوف من مغبة أفعالنا التافهة، ودون أن نضع الاحتمالات الكثيرة وتعقيداتها في حسباننا، ونحن نمضي حتى لا نكتفي بمشاهدة الأفلام الرخيصة، فالوقت الضائع لا يمكن تعويضه إلا في مباريات كرة القدم..!


*مصر

المساهمون