خالد زيادة: السلطة السياسية تتعمد هلهلة التعليم وامتهانه

03 مايو 2016
الدكتور خالد زيادة (تصوير حسين بيضون)
+ الخط -
منذ عام 1978 يواصل الباحث في الاجتماع والمؤرخ اللبناني خالد زيادة بحوثه في توصيف الأوضاع العربية والعثمانية قبلها. وله أيضًا تجربة طويلة في التعليم الجامعي، فضلًا عن تجربته الدبلوماسية سفيرًا للبنان في القاهرة ومندوبًا دائمًا في جامعة الدول العربية. وشغل مؤخرًا مدير فرع "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في بيروت. لزيادة أكثر من 23 كتابًا بين التأليف والترجمة.

*بعد رحلة امتدت عشر سنوات كنت فيها سفيرًا للبنان في القاهرة، كيف وجدت طرابلس ولبنان بعد عودتك؟

بعد عودتي وجدت الأوضاع في طرابلس ولبنان أفضل بقليل مما كنت أتوقّع. فالبعد الجغرافي وتقصّي الأخبار من وسائل الإعلام يضخمان الأحداث التي تقع في مكان آخر، عدا عن أن المتابع يضخّم الحوادث في روايتها، إذ يفصل الحدث عن سياقه. فيظن المرء أن الحدث الواحد الذي تركّز عليه وسائل الإعلام هو كل ما تدور حوله الأوضاع الراهنة في البلد، أي لبنان.
كانت الحال نفسها تنطبق على من يتتبع من خارج لبنان أخبار الحروب فيه، فيتخيل أن كل المناطق والقرى والمدن والشوارع غارقة في الحرب دفعة واحدة. اللبنانيون الذين تابعوا أحداث الثورة المصرية التي تراكمت وتفاعلت منذ العام 2011 - من دون أن ترسو على شكل نهائي بعد – تخيلوا أيضًا أن مصر كلها في ميدان التحرير. فما يتلقاه المتابعون اللبنانيون عبر وسائل الإعلام، مختلف عما كان يجري على أرض الواقع في القاهرة. فهي مدينة كبيرة وممتدة. وكانت الحوادث والتحركات تجري في أمكنة محددة منها، يمكّن الراغب أن يعزل نفسه عن الحدث. وخصوصًا أن المصريين لم يشعروا في أي لحظة، منذ بدء تحركاتهم، بأن الأمور ستتخذ منحى خطيرًا، كحال اللبنانيين الذين غالبًا ما تفضي تحركاتهم إلى انقسام في الشارع، أو تكون تلك التحركات وليدة هذا الانقسام نفسه.


* في إطار متابعة الأحداث من بعيد، في كتابك "يوم الجمعة، يوم الأحد" بدوت وكأنك تتناول الاجتماع الطرابلسي من مسافة ما. ما هو نوع هذه المسافة التي اتخذتها؟

كنت قد كتبت عدة كتب بحثية قبل هذا الكتاب. لكن تناول طرابلس فيه جاء بناءً على أسلوب كتابي اخترت واختبرت أن يكون على تماس مع أساليب أدبية مختلفة. أي الكتابة بلغة ليست بحثية بحتة، بل وإنشائية وسردية أيضًا. ذلك أنه كتاب يتناول حياة عشتها وأحداثا عايشتها، وتدور حول انتقال المجتمع الطرابلسي من التقليد إلى الحداثة. وهذا ما يدفعك إلى اختيار طرق كتابية مختلفة للتعبير عن مجمل المجالات التي يتناولها هذا الموضوع.

عمومًا في كتبي البحثية لطالما تناولت فكرة الانتقال من التقليد الى الحداثة، أو صلة المجتمعين العربي والعثماني التقليديين مع الحداثة الأوروبية. وعملي على "الكاتب والسلطان" مثلًا، يتعلّق بالانتقال من سلطة الفقهاء إلى دور المثقف الحديث في بدايات القرن العشرين. وحين قررت مقاربة العمران والعيش، وجدت أن الأسلوب الأدبي يمكنه التعبير بشكل أفضل من الكتابة البحثية عن مجريات الأحداث، وخصوصًا أن هذه الكتابة الأدبية تتضمن الكثير من المذكرات والذكريات، أو هي أشبه بكتابة المذكرات أو ما يرتبط بالذاكرة. وفي هذا النوع من الكتابة لا بدّ من الابتعاد عن الحدث زمانيًا ومكانيًا. والذاكرة تعبّر عن مناخات مختلفة كالحياة في الحارة وطقوس الأعياد والعلاقات الاجتماعية. وهي ليست ذاكرة شخصية بل جماعية.
بدأ الأمر من خلال تساؤلاتي حول سبب هدم نوع معيّن من المباني في مدينة طرابلس خلال فترة زمنية محددة. وقد تكون الإجابة الاولى أن هذ الهدم يعود إلى أسباب تجارية أو استثمارية، أي إنشاء مبانٍ حديثة مكان القديمة. ولكني وجدت أن هناك استهدافًا لمباني تتعلق بفترة الانتداب وما قبلها. وكأن الهدم تخلٍّ عن مرحلة كاملة أو محاولة لمحو أثرها. خصوصًا أن طرابلس لم تكن على علاقة جيدة بسلطات الانتداب الفرنسي، التي عاملت الطرابلسيين كسلطة مستعمرة، أو كسلطة متآمرة على السلطنة العثمانية، لإعادة رسم خريطة البلدان الخارجة من سلطة السلطنة المنهارة.



*هل يمكن اعتبار هدم البيوت القديمة لبناء أبنية جديدة كمثال لتخلي الطرابلسيين عن حياتهم التقليدية في سبيل الانتقال نحو الحداثة؟ أليس في هذا مفارقة والتباس؟


في بداية الخمسينات ظهرت حركة دؤوبة للتخلي عن القديم. ليس فقط بهدم المباني القديمة لإنشاء مبانٍ حديثة، بل كان يتم التخلي عن أثاث المنزل القديم كله، ليحل محله أثاث حديث. وكانت قد تغيّرت وضعية المرأة في الحارة الطرابلسية في تلك الفترة الانتقالية. فقد كانت المرأة تغطي شعرها إذا ما خرجت من المنزل، ولا يكون خروجها إلا لأمر ضروري. لكن فجأة، مع التحاق الفتيات بالتعليم الحديث، وانتقال السكان من المدينة القديمة الى الشوارع الحديثة، أزيل الحجاب نهائيًا وبشكل سريع. وهذا الأمر كان مؤشرًا ذا أهمية كبيرة على التبدلات التي طرأت على العلاقات الاجتماعية داخل الأحياء الطرابلسية، في فترة زمنية قصيرة.

هذا التغيير أو الانتقال من الشكل التقليدي للعلاقات الاجتماعية نحو الشكل الحداثي، كان لفئات اجتماعية واسعة وسيلةً للترقي الاجتماعي. أي للانتقال من فئة اجتماعية تقليدية إلى فئات اجتماعية حديثة ومعاصرة في ذلك الحين. لهذا كان هناك شغف بهذا التحديث الشكلي. فتغيّرت هندسة البيوت الداخلية لتتسع للأدوات الكهربائية الجديدة التي دخلت إلى المنازل. وحصلت المرأة على حقوق العمل والتعليم والانتخاب، وانفتحت الحارات على بعضها. وترافق ذلك مع دخول طرابلس في الإطار اللبناني بعد ممانعة امتدت ما يقارب العقد ونصف العقد.


* هذا يعيدنا إلى سؤال قديم: لماذا تأخرت طرابلس في الدخول إلى الصيغة اللبنانية الجديدة؟

منذ عشرينيات القرن الماضي كانت طرابلس مفعمة بالمشاعر العروبية الحديثة. وكانت هذه عروبة إصلاحية مختلفة عن العروبة القومية التي ظهرت في ما بعد. وقد عبّر عنها رجالات الإصلاح، وعلى رأسهم محمد عبده والطرابلسي محمد رشيد رضا، وعبّرت عنها الثورة العربية التي كان يرأسها الأمير فيصل، وهي عروبة شريفية هاشمية.
طرابلس كانت حذرة من صيغة لبنان التي كان مركز الثقل فيها للمسيحيين، وتحديدًا الموارنة. اعترضت طرابلس على هذه الصيغة التي أرساها الانتداب، وبقي هذا الاعتراض حتى منتصف الثلاثينيات. لكنني رأيت الأمر بشكل مختلف. فالتعارض كان قائمًا بين المدينة والدولة. 

وطرابلس كانت عالمًا قائمًا بذاته، ومدينة ذات هوية خاصة بها، فيما كانت بيروت في تلك الفترة مجرد بلدة كبيرة بنظرهم. والمدينة عالم واقعي وحقيقي، بينما الدولة هي فكرة مجردة. وهذا ما أسّس للتعارض بين طرابلس ولبنان. لكن بعد عام 1936، ومن ثم 1943، دخل الزعماء المسلمون ومنهم الطرابلسيون في الصيغة اللبنانية، بل باتوا من أبطال الاستقلال الذي أدى إلى جلاء الجيش الفرنسي.

* موضوع الإصلاح العثماني وتأثر السلطنة العثمانية بالحداثة الأوروبية من أبرز المواضيع التي عملت عليها. كيف يمكن سرد مسيرة التأثر والتأثير؟

كان موضوع أطروحتي للدكتوراه يدور حول المؤثرات الأوروبية، والفرنسية تحديدًا، على السلطنة العثمانية. وكانت فكرتي أن الاتصال بأوروبا لم يبدأ مع حملة نابليون بونابرت على مصر، وقد بيّن لي البحث أن الاتصال كان قد بدأ قبل ذلك، أي في بدايات القرن الثامن عشر، بينما بونابرت كان قد وصل إلى مصر في السنتين الأخيرتين من ذاك القرن. وكانت هزيمة السلطنة العثمانية العسكرية من النمسا والروس قد حفّزت السلطان أحمد الثالث على إطلاق عجلة التحديث والإصلاح عبر تحديث الجيش. وكذلك الأمر في مصر، اذ بدأ الإصلاح عسكريًا أيضًا مع محمد علي باشا. وكأن الهزيمة العسكرية سبب أول يدفع الحاكم إلى طرق باب الإصلاح.

أثناء إجرائي البحوث المتعلقة بأطروحتي، وقعت على رحلة قام بها مبعوث عثماني اسمه محمد جلبي أفندي إلى باريس سنة 1720. وهي سابقة على رحلة رفاعة الطهطاوي بمئة وخمس سنوات. وأبدى هذا المبعوث إعجابه بالتجربة الفرنسية التحديثية، وقد قمت بترجمة ما كتبه حول ما رآه ونشرته في كتاب عنونته بـ"جنة النساء والكافرين"، وهو مصطلح استخدمه الكاتب كثيرًا في كتابه.

بعد ذلك قمت بمقارنة كتاب الجلبي مع كتاب الطهطاوي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، فوجدت أنه في الزمن الفاصل بين الرحلتين (قرن كامل) وقعت ثلاث ثورات في فرنسا. الثورة الأولى كانت فكرية وثقافية وسُميت بعصر الأنوار مع مونتسكيو وفولتير وروسو وغيرهم، وهذه لم يعايشها الجلبي. أما الثورة الثانية فكانت صناعية، وضعت فرنسا على لائحة الدول المتقدمة، وهذا يعني أنه أثناء زيارة الجلبي، أي قبل الثورة الصناعية، كانت فرنسا ما تزال تشبه تركيا نوعًا ما في مجال الصناعات التي كان أغلبها حرفيًا. أما الثورة الثالثة فكانت تدور حول الحرية والعدالة والإخاء، وهذه لم يعايشها الجلبي أيضًا. لذا حين كنا نحاول التشبه بأوروبا منذ بدايات الاتصال بها، كانت تتغيّر بدورها. وهكذا كانت النظرة الإسلامية إلى أوروبا تتغيّر بشكل مطرد أيضًا في ذلك الوقت.

كان موضوع أطروحتي فاتحة لعدد من الأبحاث والكتب التي تناولت فيها موضوع الاتصال والتواصل المبكّر بين المسلمين والعرب والأوروبيين. آخرها كتاب صدر قبل سنتين بعنوان "لم يعد لأوروبا ما تقدّمه للعرب"، وتدور فكرته المركزية حول انتهاء عصر التأثر العربي بالأفكار الأوروبية، وانتهاء عصر الأفكار الكبرى، وتغيّر أوروبا التي لم تعد هي نفسها التي رآها الطهطاوي وقبله الجلبي. واستنتجت في هذا الكتاب أنه بات علينا أن نجد بأنفسنا إجابات عن أسئلتنا، وأن ننتج أفكارنا الخاصة بنا، بعدما انتهى عصر الأفكار والأيديولوجيات الأوروبية الكبرى التي كنا نردد رجع صداها في العالمين العربي والإسلامي.

* إذا كانت هناك محاولات إصلاحية فعلية في العالم الإسلامي، ولو عبر التأثّر بالأفكار الأوروبية، فما الذي أجهض هذه المحاولة الإصلاحية؟

كان مصطلح "الإصلاح" قد دخل في الأدبيات العثمانية منذ القرن السادس عشر. وصار متداولًا في الرسائل والنتاج الفكري العثماني منذ ذلك الحين، على أساس أن الإصلاح هو ترميم البنية القائمة. ثم صار يُطلق على كل عملية تحديث. وحين انتقلت العبارة إلى اللغة العربية حملت معنىً آخر، أي الإصلاح في إطار البنى الإسلامية، أو الإصلاحية الإسلامية، مع الأفغاني ومحمد عبده. وقد قدّمت هذه الإصلاحية مع محمد عبده إنجازات مهمة، وتحديدًا على صعيد فكرة السلطة في الإسلام، التي نفى عبده وجودها في الإسلام، أي تحوّل السلطة الدينية إلى سلطة دنيوية. كأنه بذلك كان يدعو إلى فصل الدين عن الدولة.

لكن هذه الأفكار الإصلاحية لم تتم متابعتها بعد محمد عبده، بل استحوذ على العملية الإصلاحية محافظون من غير رجال الدين، على رأسهم "الأخوان المسلمون". وساهم في ذلك انهيار السلطنة العثمانية الذي اعتُبر مؤامرة غربية على العالم الإسلامي. ورغم انتقال أفكار محمد عبده إلى تلامذته، إلا أن هؤلاء تركوا أمور الدين وكفّوا عن مناقشتها لصالح العلمنة والدستور وبناء الدولة وتحقيق الديمقراطية، ومن هؤلاء أحمد لطفي السيد وسعد زغلول وغيرهما.

* برأيك أن أوروبا أنجزت حداثتها، ولم يعد بإمكاننا أن نستعير الأفكار الأوروبية الكبرى ونكون صدى لها، كما كان الحال عند بروز الليبرالية أو القومية أو الفاشية أو الاشتراكية التي وجدت من يتلقاها في بلادنا، في حينه. وبرأيك بات علينا نحن العرب أن ننجز أفكارنا ونجد إجابات على أسئلتنا الخاصة. هل ترى أن ما سميناه "الربيع العربي" كان واحدًا من هذه المحاولات؟

لم تكن الثورات العربية لتحدث لولا الركود السياسي الذي امتد على مدى الخمسين عامًا الماضية. لقد كان ركودًا قاتلًا، إذ كان العالم أجمع يتحرك متقدمًا، بينما دولنا ثابتة في مكانها، إن لم نقل إنها في حال من التراجع والتقهقر عن أشكال الحداثة وأفكارها. وبرأيي أن هذه الثورات لم تنته بعد. ففي أوضاع مثقلة بالمشاكل والتخلف لا يمكن لثورة أن تحقق أهدافها خلال فترة زمنية قصيرة. الثورات عمل طويل المدى. فالثورة الفرنسية مثلًا استمرت مفاعيلها لمدة مئة عام، فتم إلغاء الملكية نحو الجمهورية، ثم عادت الإمبراطورية مع نابليون بونابرت، ومن ثم عادت الملكية، قبل أن تتجدد الثورة لإعادة الجمهورية. الثورات عملية تغيير شاملة في عمق المجتمعات. وهي عمليات طويلة تحتاج إلى الوقت كي تكرّس أهدافها.
في تعليق بسيط على مجريات "الربيع العربي" يمكنني القول إنه أظهر غيابًا تامًا للأفكار الناجزة التي على هديها تستكمل الثورات وترسو على شكل. فبدت الشعارات مباشرة وشكلية وتفتقد الوضوح للوصول إلى خواتيم معينة.
*بعد تسع سنوات أمضيتها في القاهرة في العمل الديبلوماسي، كيف ترى التبادل الفكري والثقافي بين بيروت والقاهرة؟

الأجيال المصرية الراهنة تجد صعوبة في التعبير عن مصر أو الهوية المصرية، بينما الأجيال السابقة كانت مدركة لدور مصر وتأثيرها. ولهذا أسباب كثيرة لا يتسع المقام لتعدادها. ولكن رغم ذلك ما زال معظم الإنتاج الأدبي العربي يأتي من مصر. وعلى سبيل المثال أن المتقدمين المصريين إلى الجوائز الأدبية العربية على اختلافها يشكلون الأكثرية. وكذلك الأمر بالنسبة للنشرات الأدبية التي تصدر في مصر، ويمكن اعتبارها من بين الأهم عربيًا. لكن المؤسف أن التفاعل الثقافي العربي اليوم هو أقل بكثير مما كان عليه قبل مئة سنة.

فمثلًا حين صدرت مجلة "العروة الوثقى" في باريس لأشهر قليلة كان تأثيرها يصل إلى باكستان. وكذلك مجلات الهلال والرسالة والمقتطف، وكانت ذات تأثير فعلي على المثقفين. أما اليوم فقد خفتت القراءة بحدّ ذاتها وتقلّص تبادل الأفكار. لقد ولّى الزمن الذي كان كتابٌ لتوفيق الحكيم أو نجيب محفوظ ينتشر في أنحاء العالم العربي. والزمن الذي كان فيه تأثير طه حسين أو العقاد وغيرهما ينتقل من مكان إلى آخر، قد انتهى أيضًا. وربما ينبغي أن تنتهي هذه الأزمان. ولكن من المفروض أن يحلّ محلها نتاج ثقافي وفكري أكثر تطورًا، وهذا ما لا يحدث. والسبب هو فقدان المثقف لنفوذه الأدبي، ذلك النفوذ الذي كان المثقف يستمده من مهنته ومن دوره وتأثيره فقط.
أذكر أن المؤرخ التونسي هشام جعيط أخبرني أن والده الذي كان شيخًا في جامع الزيتونة بتونس، كان يقول له إن التونسيين تعلّموا اللغة العربية الفصحى من خلال القصائد التي كتبها أحمد شوقي. وهذا دليل على مدى التأثير الذي كان للأدب على التواصل المعرفي بين المشرق والمغرب العربيين. والغرابة في الأمر متأتية من كون خفوت التبادل الفكري يأتي في زمن تطور الاتصالات وانفتاح وسائل التواصل، على عكس ما كانت عليه الأمور في بدايات القرن الماضي. وأسباب ذلك مرتبطة مباشرة بتدهور دور المثقف، وبتراجع متعمد لأسس التعليم، وبمفاقمة الرقابة المباشرة وغير المباشرة على الأفكار. والسلطة السياسية هي التي تتعمد هلهلة التعليم وامتهانه لتخريج متعلمين على المقاس السلطوي. وهناك أسباب تقع على عاتق المتعلمين العرب أنفسهم الذين قبلوا المقولة الخاطئة القائلة لا فائدة من العلوم الإنسانية، بل يجب التوجه إلى العلوم التطبيقية، وباتت هذه الفكرة بمثابة أيديولوجيا. والمجتمعات لا تتقدم بالطبيب والمهندس فقط، بل بالأفكار والمفكرين أولًا.

* في ظلّ ضعف التبادل الثقافي وخفوت القراءة وتأخّر المجالات الثقافية على اختلافها، ما الذي يمكن لمركز دراسات مثل "مركز الأبحاث ودراسة السياسات" أن يقدمه للثقافة والمثقفين؟

يعوّض مركز الدراسات غياب البحث في الجامعات. فاليوم لم تعد الجامعات مراكز لإنتاج الفكر. فالنفوذ الذي كان للجامعات وأساتذتها في الثلاثينيات والأربعينيات فقدته اليوم.
مراكز الأبحاث ليست البديل عن الجامعات، ولكنها تعوّض النقص الذي يسببّه تخلّف التعليم فيها، وتفتح الباب أمام الكتاب والباحثين لتحقيق أبحاثهم ونشر نتاجهم.

المساهمون