حيّ على القراءة!

17 ديسمبر 2019
+ الخط -
في حياة كل إنسان مواقف تسيطر عليه، تحتويه وتطبع في نفسه مساراتٍ تغير نظرته لنفسه ومحيطه بل والعالم من حوله؛ ربما يكون ذلك نتيجة كلمةٍ سمعها، أو شخصيةٍ التقاها، أو حادثٍ مرَّ به وعزَّز في ذاكرته كثيرًا من الدروس والخبرات. هنا تأتي أهمية الكلمة على اختلاف صور استقبالها، إذ تداعب الكلمات عيون البعض أو أسماعهم أو مشاعرهم، يرونها بمثابة قشة قصمت ظهر بعير، أو طوق نجاةٍ في بحرٍ لا تُرَدُّ غواربه!

حدث ذلك -ويحدث كل يوم- مرارا وتكرارا على مدار الأزمنة والعصور، ولعلَّك تذكر أن كتاب "إظهار الحق" كان بوصلة تغييرٍ أفرزت وأنتجت داعيةً إسلاميًا كبيرًا؛ أحمد ديدات، ورفعت الكتب شأن، مالكوم إكس، حتى قال كلمته الخالدة: "يجهل كثيرٌ من الناس حقيقة أن كتابًا واحدًا قد يغيِّر حياتهم".

كان هذا دَيدان العقلاء على مدى التاريخ؛ فهذا أبو منصور محمد بن عبد الملك بن إسماعيل النيسابوري، كان أولَ حياته فرَّاءً يخيط جلود الثعالب؛ فنُسِبَ إلى صناعته وعُرِفَ بالثعالبي، ثم انتقل من حوك الجلود إلى حوك الكلام بعدما أطربته الكتب وأُشرِبَ حبها؛ فأصبح حديث مجالس الأدب واللغة والتاريخ. لعلَّك قرأت له "يتيمة الدهر"، أو "أحسن ما سمعت" أو غير ذلك من كتبٍ تربو على الثمانين، ولو ظل الثعالبي يمتهن صناعة الجلود ما وصل إلينا خبره، ولكان من المستحيل علينا أن نتذكره في القرن الحادي والعشرين.


ولعلَّ قصاصةً ورقيةً تحيل حياة المرء من النقيض إلى النقيض! أقولها حرفيًا دون أدنى مبالغة؛ حدث ذلك لطفلٍ بليد يكره الدراسة لأبعد حدٍ يمكنك تصوُّره، بل مات أبوه فشعر بالانكسار والوحدة؛ فقالت له أمه: يا بني لي عندك طلب؛ فأجابها على الفور: كلُّ طلباتك أوامرٌ وسأنفذها يا أمي عدا أن تطلبي مني العودة للمدرسة! في سن الثانية عشرة، أعطى هذا الطالب البليد ظهره للتعليم، وخرج إلى مدرسة الحياة، رضخت والدته لرغبته جزئيًا غير أنها لم تيأس؛ فقد ارتأت أن يلتحق بمطبعةٍ حتى يكون قريبًا من ميادين القراءة، وكانت رؤية ثاقبة إذ إنه سيظل متصلًا بالثقافة، وإن كان ذلك من البوابة الخلفية للمعرفة وبشكلٍ غير مباشر.

في بعض شوارع مدينة هانيبال بولاية ميسوري الأميركية، وفي أحد الصباحات التي لا مثيل لها، استنشق الصبي نسمات تغيير حقيقي في حياته، إذ وقعت تحت يده -وبصدفةٍ لا يرتبها إنسان- قصاصةٌ ورقيةٌ تحمل سطورًا موجزة من قصة حياة جان دارك. لا يدرك من تكون جان دارك، ولا يعلم شيئًا عما قاسته في حياتها، إلا أن كلمات القصاصة أخذت بتلابيب عقله، لم يفكر ساعتها إلا أن يستقصي أخبار جان دارك هذه!

أراد أن يفهم ماهية المعاناة التي كابدتها تلك السيدة؛ فانكب على قراءة كل ما أمكنه الوصول إليه عن جان دارك. كانت القصاصة فصلًا مشرقًا في حياة هذا الصبي؛ ليعبر بعد ذلك عن كل ما حوله بالكتابة التي ضاق بها صغيرًا وترك لأجلها الدراسة.

غيّرت قصاصة ورقية بها بضعة أسطر حياة، صامويل لانجهورن كلمنس، وتعرفه أنت باسم، مارك توين، صاحب الأسلوب الساخر وربما قرأت له "مغامرات هكلبري فين" أو رواية "توم سوير" أو أيٍّ من إبداعاته التي بلغت ثلاثة وعشرين كتابًا. عاف الدراسة صغيرًا فترك مقعده في المدرسة، وانخرط في مدرسة الحياة؛ لتمنحه جامعتا إكسفورد وييل درجة الشرف امتنانًا واعترافًا بتأثيره في الأدب الأميركي.

قاد الشغف مارك توين -لعالم الكتابة والأدب- من مجرد قصاصة، وأنت صديقي القارئ ما الذي يشعل شغفك ويثير ملكاتك لتبدع في مجال ارتضيته لنفسك؟ الإجابة عن هذا السؤال ستضعك على طريق تتوسم السير فيه، وربما كانت قصتك تحمل من التحفيز ما يبعث الأمل في نفوس كثيرين.

على مدار نصف قرن، لم ينسَ مارك توين فضل جان دارك عليه؛ فجمع كل ما عاشه من مواقف متأثرًا بها في كتابه "ذكريات جان دارك". إن قدرة المرء على الإبداع تتجلى عندما يجد في الأحداث والمواقف من حوله ما يثير انتباهه؛ فإذا كان ما حولك يبعث على الملل والرتابة، فإن دورك أن تبحث عن شغفك بموضوعٍ ما وتركز عليه؛ لتصنع حلمك بنفسك دون انتظار الآخرين. يساعدك على تغذية شغفك وتنميته أن تقرأ وتقرأ ثم تقرأ؛ ففكرة واحدة تدور في رأسك إن وازنتها بأفكار الفلاسفة والحكماء والعلماء لأثمرت أكثر بكثير مما لو اعتمدت على فكرتك وحدها.

سئل العقاد: لماذا تقرأ بنهم؟ قال: لأن حياةً واحدةً لا تكفيني؛ فأنا أعيش كلما قرأت لشخصية ما كل ما عاشته من أحداث؛ فأجمع خبراتٍ إلى خبرتي، وحيواتٍ إلى حياتي. ولو تأملت حياة العظماء في شتى مناحي الحياة؛ لخلصت إلى أنهم يقتطعون من وقتهم وقتًا مقدسًا للقراءة، وهذا يدلك على الباب الذي تدخل من خلاله لعالمٍ حيوي يعجُّ بالفكر والثقافة والحكمة.

صنعت القراءة محمود عباس العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وقد حصلا على الشهادة الابتدائية ليس إلا، وصنعت القراءة مصطفى لطفي المنفلوطي ولم ينتظم في سلك الدراسة سوى عشر سنين قضاها في رحاب الأزهر الشريف. القراءة كانت سبب طرد، علي الوردي، من دكان عطارٍ كان يعمل لديه؛ فقد كان ينشغل عن الزبائن بالمطالعة، وكان ثروت أباظة يتأخر عن المدرسة وربما يتغيب عن الحضور أحيانًا لينتهي من قراءة الكتب والروايات التي شُغِفَ بها.

لم يُتمِم محمود محمد شاكر (أبو فهر) دراسته الجامعية لخلافٍ فكري بينه وبين الدكتور طه حسين، ومع ذلك فقد امتلك قلمًا مبدعًا بفضل ولعه بالقراءة، ولو قدِّر لي الاستطراد في هذا المسلك لكتبت فيه الكثير، ويكفي القارئ الكريم هنا الإشارة لهؤلاء العمالقة في ربوع الأدب العربي.

فإذا عرَّجنا على حياة كبار الأدباء في الغرب لصعقنا من تطابق التأثير ذاته؛ فأرشدت القراءة مارك توين لإبداعاته الساخرة، وألهمت شكسبير فكتب روائع الأدب الإنجليزي الخالدة، ويأتي ليو تولستوي ضمن قائمة من زهدوا في التعليم الجامعي؛ ليكون نبراسًا للأدباء من بعده في روعة الأسلوب ودقة العبارة، وعلى شاكلته كان أرنست همنغواي، وغابريل غارسيا ماركيز.

لم تحظَ أجاثا كريستي بأي دراسة نظامية، والكثير والكثير من المبدعين لم يوقفوا أنفسهم على مجرد شهادةٍ كرتونيةٍ أو إلكترونية تتحكم في مستقبلهم المهني والحياتي؛ بل سعوا في إصرارٍ وبصيرة ليقودوا حياتهم وحياة من تأثروا بهم متكئين على شغفهم بالقراءة ورؤيتهم لأنفسهم بشكلٍ صحيح.

إن كان في أسرتك الصغيرة أو في محيطك من يرميهم البعض بالبلادة أو يتهكم عليهم من حولهم؛ فأرجوك ألا تنضم لصفوف هؤلاء الجلادين، ويمكنك أن توقظ شغف هذا الصبي بقصةٍ سهلةٍ أو رواية مبسطة؛ تزرع بها بذرة أملٍ في نفس هذا الصبي. إن النفوس مؤهلة لتقبُّل الحكمة والمعرفة بشرط أن نجد من الحكمة والمعرفة ما نحرِّك به النفوس إليها؛ فكن لبنةً في بناء المعرفة، ولا تنضمَ لمِعول الهدم الذي يروق له أن ينتقد نقدًا مأزومًا وربما مُدمِّرًا.

ليس في تأخر المرء عن أقرانه ما يستوجب العار والشنار، ولكن على المرء أن يسعى جاهدًا لاستدراك ما فاته من العلى والسُؤْدَد. إن كانت قصاصةٌ غيرت مسار حياة إنسان؛ فما أروع أن ترشد من حولك لقصاصةٍ تنير دربهم، أو أن تساعدهم على الوصول إليها، ولا تسحق ما في قلوبهم من بقايا الأمل في غدٍ أفضل.