حين ينتحر الوطن زينب

17 نوفمبر 2014
+ الخط -

نموت كي يحيا الوطن.. يحيا لمن؟.. نحن الوطن. إن لم يكن بنا كريماً آمناً، ولم يكن محترماً، ولم يكن حُراً.. فلا عشنا، ولا عاش الوطن.
بهذه الكلمات، يفسر أحمد مطر انتحار زينب مهدي، قبل أيام. بعد أن وصل بها الإحباط مبلغاً لم يعد معه للحياة معنى، بل صارت حياتها عبئاً، فاق تصوراتها وقدراتها، فتخلصت منه، لعل في الانتحار خلاصاً.
اكتشفت زينب أنها منتفية الوجود، عديمة جدوى الوجود، ومن ثم لا مكان لها فوق أرض تلفظها، ووطن يَكره أبناءه ويُكرههم. أيقنت أن القتل ليس بالضرورة بنحر الجسد، بعد أن تتبعت أحوال السجينات والمعتقلات والملاحقات، وعرفت كيف يكون الاغتصاب والتعذيب والامتهان أشد قتلاً للآدمية. رأت الحرائر يُقتلن ويُقتلن، ثم يُقتلن وهن أحياء. فكتبت آخر كلماتها: "تعبت.. استهلكت.. ومفيش فايدة.. كلهم ولاد كلب.. وإحنا بنفحت في مَية.. ما فيش قانون ها يجيب حق حد".
قضى الاكتئاب على حياة زينب، بعد اكتشاف أن وطنها ليس وطناً لتحيا فيه. فإما أن يُميتها حية كغيرها، أو ترحل عنه، ولو إلى الآخرة، حيث الحق والحقيقة والحياة الأفضل والأعدل عند رب القتلى والقتلة. زينب ليست أول المنتحرين في مصر ما بعد 3 يوليو، فقبل شهرين، شنق شاب نفسه في عرض الطريق، بعد أن ضاقت به سبل الحصول على أدنى متطلبات الحياة. وبعده بأسابيع، حاول مصري آخر إحراق نفسه أمام مقر الحكومة، لعجزه عن الإنفاق على أسرته.
تنوع الأسباب بين اقتصادية وسياسية، يشير إلى أزمةٍ حقيقيةٍ، يعانيها المجتمع، بل الوطن. فالمصريون المعروفون بحب الحياة وعدم الجرأة على قتل النفس، لم يعد الموت عندهم خطاً أحمر. خلال أربع سنوات من ثورة يناير، سقط آلافٌ قتلى ومصابين، معظمهم بعد 3 يوليو 2013. وأصبح القتل جزاءً وفاقاً لمجرد النزول إلى الشوارع رفعاً لشعار، أو إعلاناً لموقف، ولو بالصمت. فكما أصبح القتل سهلاً على الشرطة والسلطة والمواطنين الشرفاء، ليس غريباً أن تهون الحياة عند طالبي الحرية والكرامة ولقمة العيش.
انتشار الشعور برخص الحياة والاجتراء على الدم، دلالته خطيرة، فاستسهال القتل معروف عن الأمن وحلفائه، لكن استسهال الموت عند محبي الحياة أمر يستحق التفكر. فنتيجة انسداد السبل واستنفاد الخيارات السلمية، واليأس من جدوى العمل السياسي، بل ومن الحياة برمتها، يصبح الوطن في خطر حقيقي، لكن ليس من الباحثين عن تحريره وتطويره. وإنما من القائمين عليه الذين يتوهمون أنهم يحفظونه ويعظمونه، فيما يحوّلونه أرضاً طاردة وسماء رافضة ونفوساً باغضة.
عندما تصل معاناة المصريين إلى حد يدفعهم إلى الانتحار، افتقاداً لحياة كريمة، أو يأساً من حياة بكرامة، لا يجب أن يرى "حماة الوطن" في ذلك دليل هزيمة وانكسار. فهنا الخطر على الوطن كارثي، إذ لا ضمانة بأن المنتحر التالي سيقتل نفسه فقط. فزينب مهدي كانت يائسةً مسالمةً اكتفت بالهروب من ظهر الأرض إلى بطنها. بينما هناك مثل زينب آلاف قد يتحوّلن، أو يتحولون، إلى قنابل تنفجر في وجوه من أغلقوا أبواب الوطن وصموا آذانهم عن أهله. إنه باب واسع للعنف المجتمعي، سيصعب رده إن انفتح، خصوصاً مع تراجع الوازع الديني، واهتراء مظلة العقيدة، وانحدار مكانة القيم والمبادئ الإنسانية. وبدلا من الانتحار السلبي والموت منفرداً، قد يتطور الأمر إلى عمليات انتحارية. فما الذي يمنع منتحراً أن يختار حفنة من "أهل الوطن" لينتحرَهم معه. عندئذٍ، لا حصانة، ولا أمان، لمن قتلوا وأهانوا رجال مصر، وانتهكوا أعراض نسائها. أو من تاجروا بالثورة للحصول على منصب أو السير في موكب. الكل في ذلك سواء، ليبراليين وإسلاميين، عسكريين ومدنيين، سلطة ومواطنين، شرفاء أو إرهابيين. كلهم مسؤولون، فهم الوطن الذي "انتحر" زينب.

 

 

 


 

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.