في البدء كانت تمدّ يدها إلى تفّاحة الخروج من الجنّة إلى الحرب فالكوارث ثمّ قطفت الرّغبة في لا منتهٍ لذيذِ العناق.
في الخَلْقِ الأوّل وجهِ آدم الطّينيّ ويديه السّحابتين وماءِ الحضور الذّكوريّ هناك أسالت نكهةَ الثّمار بفائض الشّوق وهناك تعلّمت كيف تغزل صمتَ الأنوثة وكيدَ الدّهشة، هناك علّمت آدم أبجديةَ النّفي وأذاقته طعم خوخ الفراق وبكاء الهجرة.. الجمال والتصيّدُ والانتباه والتّناسقُ ومشيُ الهوينى، وهناكَ وهناكَ.
ولا جاراتٍ لها في الجنّة كي تُنصِتَ لأحاديثهنَّ.. كانت تمشي بين شجرتين كسحابة بادية.. شعرُها شلّالُ الوله والحبّ وجسدُها خامةٌ بيضاء، هنالك رسمَ آدمُ أولى تصوّرات الأنثى بضلعه المنحني كقوس الرّماية مشدوداً كوتر عازف الأوركسترا المجنونة في ليلة شتائيّة وهناك حيثُ العدل والحبّ والشّوقُ فتيٌّ بعمر الورود الصّباحيّة في شرفات الشّام، هناك أخذَ بيدها إلى الرّضى وأخذتْهُ إلى كُرَةِ الصّلصال الطّريّة وجمرة الغضب.
كانت الأرضُ ساخنةً والأنهار تتبَخّر الأشجارَ الفُستُقيّةَ، فتتشكّلُ قطرات النّدى الأولى.. بينما إبليسُهما مشغولٌ بحروبِ الجنّ على مدنِ الملائكة الآمنة، وكانا غائبين عن الوعيِ حين مرّتِ الشّمسُ كرغيفِ خبزٍ برائحةِ الرّيف فصَحَـيَا معاً، كانت الخطيئة تنهش التّرابَ مثل ذئبةٍ مفترسةٍ وتتوعّد الخلقَ بنشوب الأنياب: صباح الخير يا حوّائي المُتْعَبة ثمّ أخذَ بيدها إلى البحر ومشيا في الماء وقبّلها هناك قُبلَة الطّين لطينِه وابتسمت له ابتسامةَ الثّلجِ لحارس الشّتاء.. كانت فاتنة كضحكة طفلٍ جائعٍ لصحنِ حساءٍ ساخن في أيّام الحصار الشّديد.. وكانت طويلة كنخلةٍ فراتيّة ومائلةً على ضفّة اللقاء الأرضيّ الأوّل - كانت كل شيء - كانت تبدي من أنوثتها ما يشعل حرائق العالم المقبلة، كانت سخيّةَ اللفتةِ كاستدارة العطر.. كانت ترتجف كعصفورٍ مبلّلٍ بماء الحذر الشّديد.. كانت تمدّ لآدمَ جسرَ العناق متوهّجة كزهرة رمّان على مسامِ شجرةٍ بهيّةٍ تظلّلُ الأنبياء القادمين في بلاد الخوف والطّوائف وقتلِ الإناث سودِ العيون ذواتِ الرّموش الطّويلة في عصورِ الرّمل والتّسلّط والانهيار، كانت طفلةً تبحث عن الأبوّة في قلب آدمَ وعن الزّوج في رفّة جناحِه عليها وعن الابن البارّ في زمن الحرب والفقر وعقوقِ العالم.
مرَّ دهرٌ من الانكسار فانزاح كلّ شيء، كانت غُصنَ زيتونةٍ ولكنّهم علّموها تقَلُّدَ رشّاش (البي كي سي)، كانت مرهفةَ الحسّ ولكنّهم درّبوها على قنص قلوب الأطفال بدمٍ بارد، كانت ذات قوامٍ ميّاس بخطواتٍ رشيقةٍ تقطع الحَيَّ وها هي الآن تعتلي المباني العالية كي تُطِلّ على طرائدها وتخطفَ الفرحَ بطلقةٍ نافذة.. كانت رقيقة الجِلْد وغلاف القلب وزرقاء الشّرايين، صارت تجيدُ بتْر أعناق الرّجال بسكاكين الحداثة وكانت تداوي الجرحى بابتسامةٍ ولا جريح اليوم يشفى بعد رصاصها. تُرى مَنْ سمّاها لبوة وأنبت مخالبَ الخطيئة في أصابعها العاجيّة؟ من ألبسها الثّيابَ المموّهة وتغنّى بجمال عيونها وابتسامتها في ساعات المجزرة..؟
حوّاء تبتسم للكاميرا وتحاور الضّحية في نزعها الأخير وتمارس المهام القتالية بين الجنود بينما يتغنّى الشّعراء باستدارة ابتسامتها في وصيّتها الأخيرة.. حوّاء تنوب عن إخوتها على الحواجز بعد أنْ حصدتهم مناجلُ الحرب.
في آخر مرّة تصدّرَتْ فيها المشهد انفجرَت المفخّخةُ فشاهدوا قلبها يطير في الهواء مثل عُصفورٍ يبحثُ عن شجرةٍ تُؤوي حزنَ الخروج المُدهش من الجنّة وتثمر هزائم العالم.
(حين يكون القنّاص أنثى) تتهيّأُ الحياة بأسرها للصّيد الفاتن وينهضُ كلّ شاعرٍ للموت مشيراً لفراغ الضّلع في البدايات كي تمرّ الرّصاصة إلى مثواها الأخير.
(سورية)