حين همست مدريد

11 يونيو 2015
بوابة القلعة وسط العاصمة الإسبانية (Getty)
+ الخط -
هي مدريد، المدينة التي أخذت اسمها من لغة الدمشقيين الذين عمّروا فيها الحياة (مجرى النهر أو مجرى الجليد). وأنا السورية الدمشقية الطاعنة بالياسمين وبالقهر، أحمل في عيوني كل الورود التي كانت على شرفات دوما وداريا قبل أن تهوي، والتي ماتت بعد أن هوت تلك الشرفات، ماتت من العطش.

روحي مثقوبة كجدران نهر عيشة، وكلما حاولت الهروب من دمشقي إلى شوارع مدريد كانت الأصوات العربية الساكنة هنا. في كل زاوية في مدريد، تعيدني إلى شامي، وتجعل أصوات مآذنها تصرخ في أذني دفعة واحدة.

وصلت، وأنا السورية الدمشقية، بلاد الأندلس، لكني لم أصلها كفاتحة تحمل في يدها أقدم حضارات العالم أو كسائحة تفتش في مدريد عن صدى هذه الحضارة. وصلت مدريد لاجئة هاربة من نازية القرن العشرين، هاربة من الحياة التي تموت هناك تحت التعذيب، وتحت الأرض في دمشق، لاجئة وفي جيبي الصور التي كانت في جيوب من رحلوا بصمت وبدون أسماء.


أمشي هنا في شوارع مدريد التي أعرف أنها تعرفني وتعرف ملامحي. تأخذني الطريق من زاوية لساحة وكلما شردت قليلاً يباغتني الحضور العربي الذي يطل بثقة وقوة ويقول لي أنت من دمشق.

تقول صديقتي التي تعيش هنا منذ زمن وتتقن اللغة الإسبانية، والتي تسير معي، هذه بوابة الكلا (القلعة) puerta del Alcalaa، وهي أجمل بوابات مدريد. كما أنها مصنفة من قبل اليونسكو بأنها إرث عالمي لا يمكن لأحد المساس به، وأمامها ساحة الكلا أو القلعة وهي أجمل ساحة تتباهى بها هذه المدينة.

هناك بوابات لمدريد؟ أسألها وشغف ينهض في روحي وألف ياسمينة تتفتح. نعم، لمدريد أسوار وبوابات بناها الدمشقيون هنا، بنفس الشكل الدمشقي هناك، وأهمها بوابة الشمس والبوابة الكبيرة وبوابة القلعة هذه، إذ هناك وعلى هذا المرتفع بنى آخر ملوك بني الأحمر قلعة كبيرة في العصور الوسطى، وكان يريد بها أن تكون مدينة ضخمة، وأن تصبح عاصمة لملكه الذي هوى، والتي مازالت هنا كمدينة صغيرة قريبة جداً من مدريد، واسمها القلعة Alcalaa، وفيها جامعة القلعة، وهي أقدم جامعة في إسبانيا، وهي أيضا من أقدم جامعات أوروبا. حين تدخل المدينة تلاقيك الزخارف العربية وترحب بروحك وتنده عليك يا أيها الدمشقي: تعال اقرع أي باب هنا لتصل مرة أخرى إلى نفسك ولتدخل بيوتا هي كبيوتك تتوسطها بركة ماء وينهض فيها شجر الليمون والنارنج.

باب القلعة هذا كباب توما في دمشق، وصوت الحارات الضيقة هنا رطب وطيب كصوت حارات باب توما قبل أن تسكنه الدبابات والحواجز وقبل أن تغلفه اللافتات التي تحنط العقول. نمر من الباب الكبير ذي القنطرة، والممر الضيق، لنصل الساحة الكبيرة الخلابة. أحاول أن أشرب هذا الجمال وأن أعيشه صافياً، لكن لا أدري كيف تقف ساحة المرجة بيني وبينه، وتحضر كاملة، وصوت أول المظاهرات يبتلعني من جديد.

نترك الساحة الكبيرة ذاهبين باتجاه القصر الملكي، مارين بشارع مكتظ بالحياة وشغفها بالموسيقى التي تعيد إنتاج الحياة في دمي، لنتوقف عند إسبانية ترقص الفلامنكو، وتوقظ الأرض بقدميها وترفع السماء أكثر بيدها.

إقرأ أيضاً: "لابابييز" شارع إسباني مرصوف بالقصائد والموسيقى

هذا الرقص أصله أندلسي، هل تعرفين؟ تقول صديقتي. نعم أعرف هو رقص المظلومين المهجرين عن أرضهم وبيوتهم، هو رقص السوريين الآن رقص النازحين حين لم يستطيعوا أن يحملوا من عمرهم كله غير أسمائهم التي صارت مجرد أرقام.

حين بدأت هذه الراقصة كنت أحس بأنني أسمع قصائد ابن هاني الأندلسي وهي تربي الحب ابن الحياة الوحيد، وأني أسمع ولادة بنت المستكفي تلقي على الحاضرين في مجلسها شعرها وعشقها بكل ذاك العنفوان. لكني الآن أسمع صوت رقص الذين مازالوا هناك يرقصون بالشهيد حين زفافه ويدورون به الساحات قبل وداعه الأخير، وأسمع ما بقي من أمه على منديلها حين زغردت له قبل أن ينزل تلك الحفرة.

أترك الرقص وأمشي. أسير بلا ملامح لنصل إلى القصر الملكي الخلاب، ولتباغتنا كنيسة رائعة الإطلالة بزخرفها وصوت الفن في كل حجر فيها. تأخذني الزخارف وهذا الجمال من نفسي، لكن صديقتي تقول هذه الكنسية اسمها كنيسة المدينة Almodina لقد سماها العرب هنا ولقد كانت مسجداً.


أجلس قليلا في الكنيسة لكني أسمع مدريد تقول لي: لقد عرفت الحرب مثلك يا دمشقية، لقد قصفني فرانكو بالطائرات، مثلما قصفت دمشقك، فاهدئي قليلاً. وكوني واثقة أن الدمشقي الذي سماني لا بد أن يعيد يوماً لاسمه ما يستحق من الحياة.
المساهمون