حين تضرب الدبلوماسية المصرية نفسها

20 اغسطس 2017
+ الخط -
تقول حكمة للفيلسوف الصيني سون تزو قبل 500 عام قبل الميلاد: "عندما يبدأ السّقاة فيشربون أولاً، فهذه علامة معاناة الجيش من العطش الشديد". وفي مصر، تُحتكر السُقيا، حيث يقوم النظام الحاكم بعمليات عسكرة لأغلب قطاعات الدولة، خصوصا السيادية، ومنها وزارة الخارجية التي جرى تقليص صلاحياتها لصالح الجهات الأمنية. جاء ذلك على أرضيةٍ تمت تهيئتها باستبعاد السفراء وموظفي السفارة غير المؤيدين للنظام، أو المتعاطفين مع ثورة 25 يناير. ولتحقيق ذلك، سلكت الإجراءات طريقاً إلزامياً يبدأ بشرط ولاء الدبلوماسيين الجدد للقيادة العسكرية، ثم إلحاقهم بدوراتٍ تدريبية أمنية وعسكرية في أكاديمية ناصر العسكرية العليا، والاستغناء عن مهارات الأعراف الدبلوماسية شروطا للتأهيل في مجالات العلاقات الدولية والبروتوكول واللغات. وهذا الإبعاد للمشكوك في ولائهم والاستقطاب الممنهج للمؤيدين للنظام الحاكم، سياسة متبعة في النظم الديكتاتورية، فقد قام نظام الإنقاذ في السودان، بعد انقلابه على الشرعية عام 1989، بما سُميّت أوان ذاك سياسة التمكين للمُستقطَبين من أهل الولاء، والإحالة إلى الصالح العام للمُستبعَدين من مناصبهم ووظائفهم.
يعود تغوّل الجيش المصري على القطاعات الأخرى، مثل القطاع الاقتصادي، إلى حقبة جمال عبد الناصر (1956- 1970)، حيث تم تطبيق سياسة التأميم، وبدأت القوات المسلحة ترى نفسها قائدة للتنمية الوطنية. وفي عهد أنور السادات (1970- 1981) تم تطبيق سياسة اقتصادية وانفتاح سياسي، تم بموجبه تخفيض العسكر في المناصب العليا. ولكن، وفقاً لاتفاق السلام مع إسرائيل في 1979، قدمت وزارة الدفاع الأميركية المساعدات إلى مصر بتطوير الصناعات الدفاعية، وتوسعت تبعاً لها أعمال الجيش. أما في عهد حسني مبارك (1981- 2011) فقد اتبعت حكومته مساراً اقتصادياً للتحرير الاقتصادي، أدى إلى تنامي المنافسة بين المدنيين والعسكريين، حيث نجح العسكر في توسيع نطاق منتجاتهم وتعاونهم الدولي. وسياسياً، لعب الجيش دوراً أقل وضوحاً، ولم يبرز دوره إلّا بعد مظاهرات 2011.

بالإضافة إلى توسع الجيش في أعماله الخاصة التجارية والاستثمارية في أكثر القطاعات حيوية، شملت سيطرة العسكر، في عهد عبد الفتاح السيسي، على الحكومة التمدّد في الوظائف السياسية وتوطيد التعاون مع الوزارات المختلفة، وهذا ما أسماه إريك نوردلينغر في كتابه "الجنود في السياسة" نظام الحكم البريتوري.
في حالة نظام عسكري ديكتاتوري، ليس هناك مجال للحديث عن حيادية المؤسسة العسكرية، إذ يكون ولاؤها وانحيازها في هذه الحالة للفرد الحاكم، وليس للدولة. وبالتالي، تنتفي استقلالية القوات المسلحة. كما أنّه لا يمكن أن يحلم المواطن المصري من نظامٍ انقلب على حكومة ديمقراطية أن ترتضي رموزه المشاركة السياسية، مواطنين عبر قنوات قانونية، أو تسلمهم المناصب التنفيذية بوصفهم أفراداً، لا ممثلين للمؤسسة العسكرية، أو مؤيدين لها.
يرتكز توجيه النظام الحاكم بوصلة الدبلوماسية المصرية على تجربة أواخر سنوات حكم مبارك، حيث وافق على عدة مشاريع، ساهمت في إدماج إسرائيل في المنطقة. من تلك المشاريع التي تبناها مبارك كان "الاتحاد من أجل المتوسط" الذي اقترحه الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، في يوليو/تموز 2008. مكّن ذلك المشروع إسرائيل من التمدّد بمشاريع تعاون إقليمية، وعقد شراكة استراتيجية أوروبية إسرائيلية، تسمح لها بالمشاركة في وضع القرارات الأوروبية ذات الصلة بالشرق الأوسط والنزاع العربي الإسرائيلي.
وعندما تزايد الحديث عن الخطر الإيراني على حدود مصر الشرقية، تم ربطه بطلب إغلاق الأنفاق بين سيناء وقطاع غزة، بدعوى مكافحة تهريب السلاح إلى حركة حماس من أجل تحقيق أمن إسرائيل، فتم التوقيع على مذكرة تفاهم بين إسرائيل والولايات المتحدة في 16 يناير/كانون الثاني 2009، تضمنت الدعوة إلى تعاون أميركي إسرائيلي أوروبي لهذا الغرض في البحر والبر والجو. ومع أنّ مصر رفضت المذكرة في بادئ الأمر، لأنّها ليست طرفاً فيها، إلّا أنّها لم تستطع مقاومتها ودخلت المذكرة حيز التنفيذ. وقد أوقعت هذه التبعية الدبلوماسية في عهد مبارك في أخطاء حسابات إقليمية خاصة بالعلاقة مع إسرائيل ودولية بالتحالف مع الولايات المتحدة التي اتخذت مصر مطية لتنفيذ سياساتها في المنطقة.
منذ انقلاب 3 يوليو في 2013، والأداء الدبلوماسي المصري يسقط في المحافل الدولية والإقليمية، والشواهد على ذلك تتنوع بين التخاذل عن مواقف كان يجب اتخاذها بوضوح والتراخي والعثرات، ما يدلُّ على تدهوره. أضرّ تطعيم وزارة الخارجية بالعسكر، والنتيجة ازدواجية الفساد، بالإضافة إلى تهم الفساد المالي التي تلاحق شخصياتٍ نافذة في الوزارة.

يُعتبر تدخل العسكر في الحياة السياسية، وتوسيع صلاحياتهم، معوّقاً لعملية التحول الديمقراطي، إذ سيحدّ هذا التوسع من قدرة البلد على التعاطي مع أي عملية تحول ديمقراطي قادمة، وستتم صياغة المجتمع على هذا الأساس. كما أنّ عملية تسييس الجيش التي تتم بطريقة ممنهجة تعمل على إفشال تحقيق المعايير السليمة والانضباط في الميزانيات العسكرية، والامتيازات الدستورية والاستقلالية التنظيمية للمؤسسة العسكرية. ويلاحظ حرص النظام الانقلابي، منذ قيامه، على تضخيم ميزانية المؤسسة العسكرية، وزيادة أوجه صرف مواردها المالية واستثماراتها، وعدم خضوعها لرقابة السلطة التشريعية أو التدقيق المحاسبي المالي.
سيدكّ هذا التجييش العسكري والأمني لوزارة الخارجية عرش الدبلوماسية المصرية، في وقت يُرجى من مصر لعب دور إقليمي متوازن وحكيم، لكن الانشغال بترسيخ العسكرة على حساب الوضع الاقتصادي المهتزّ سيعمل على انهيار أجهزة الدولة. وفي المحصلة، ونتيجة هذه الضغوط، ستفقد الخارجية استقلاليتها وإرثها الدبلوماسي العريق، وسينعكس ذلك على فعالية مصر ودورها الدولي والإقليمي.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.