اعتقل النظام في تلك التظاهرة المئات، وزجّ بهم في فروعه الأمنية. منهم من خرج لاحقاً بعد نيل ما ناله من التعذيب، ومنهم من قتل تحت التعذيب، ومنهم أيضاً من لا يزال مصيره مجهولاً حتى اليوم. لم يكن النظام يتوقع أنّ مدينة حمص ستثور ثورة كبيرة، ولم يكن يتوقع أنّ من يعتبر "إلهاً" لدى مناصري النظام، ستمزّق صورته من دون خوف من الاعتقال والقتل.
كسر الخوف
باسل فؤاد من الناشطين المعروفين في حمص، وكان من أول الخارجين في تلك التظاهرة. يروي الشاب لـ"العربي الجديد"، لحظات كسر الخوف لدى الناس في حمص، مشيراً إلى أنّ يوم 25 مارس/ آذار "كان يوماً تاريخياً"، لأنّ المتظاهرين تمكنوا من الوصول إلى ساعة المدينة، وسط تشديدات الأمن الكبيرة.
أول تظاهرة خرجت في حمص كانت يوم 18 مارس 2011، لكن قوات الأمن والشبيحة تمكنوا من قمعها عند ساحة مسجد خالد بن الوليد، قبل وصولها إلى ساحة الساعة. ويقول فؤاد إنّ "مشهد ركل صورة حافظ الأسد وتمزيقها للمرة الأولى ما زال راسخاً في أذهان السوريين حتى اليوم"، موضحاً أنّ "التخطيط للخروج في تظاهرة كان يتمّ مع المقربين جداً من الأصدقاء"، في إشارة إلى الخوف من تسرب الأمر لأمن النظام.
انطلاق التظاهرة كان من مسجد الدروبي البعيد عن ساحة الساعة قرابة 500 متر فقط، حيث قام أحد الناشطين بالهتاف في المسجد بـ"الروح بالدم نفديك يا درعا"، لينتفض بعدها معظم من في المسجد. وعند محاولة الأمن الوصول إلى الناشطين، حصل عراك داخل المسجد وامتد إلى أمامه بعد خروج الناشطين، الذين أصرّوا على المضيّ باتجاه ساحة المدينة.
يتذكّر باسل فؤاد أنّ الناس بدت خائفة وبدأت بالانسحاب ليبقى عشرات الأشخاص فقط ضمن التظاهرة التي بدأت بالسير، فيما كان الأمن والشبيحة يحيطون بها من كل ناحية، إلى أن وصلت إلى ساحة الساعة، إذ اعتلى المتظاهرون الساعة وبدأوا بالهتاف. إلا أنّ عناصر الأمن والشبيحة داهموا التظاهرة بالهراوات والعصيّ الكهربائية، وتمكنوا من إلقاء القبض على معظم المتظاهرين.
أصيب باسل وقتها في فمه، إلا أنه تمكّن من الهرب، ليعود لاحقاً بعد وصول المتظاهرين من مسجدي خالد بن الوليد وعمر بن الخطاب بأعداد كبيرة.
بعد تجمّع المتظاهرين، الذين كان عددهم يتخطى العشرين ألفاً، بدأ النظام بقمع التظاهرة بالغازات المسيلة للدموع، ثمّ تطور الأمر إلى إطلاق الرصاص بشكل مباشر على المتظاهرين، ما أدّى إلى تمكّن الأمن من إنهاء التظاهرة.
يؤكد باسل فؤاد أنّه تجوّل بين عناصر الأمن والشبيحة في الساحة بعد تخفيه، فشاهد بقع الدماء في كل مكان هناك، فيما كان الشبيحة يتجولون بالسلاح الناري والسلاح الأبيض.
بدوره، يقول الناشط محمد الحمصي، الذي شهد أيضاً على قمع التظاهرة، وكان من أول الناشطين في حمص: "النظام قام بالتخطيط مع خطباء المساجد لإنهاء كل خطبة في وقت محدد، بهدف منع خروج التظاهرات في وقت واحد، وذلك كي يتمكّن من قمعها، إلا أنه فوجئ بالعدد الكبير الذي خرج في التظاهرات، ولم يتمكّن من قمع الناس الذين خرجوا من مسجد خالد بن الوليد ومسجد عمر بن الخطاب خصوصاً، لأنّ أعدادهم كانت كبيرة جداً، فضلاً عن توجّه معظم الناس إلى محيط المسجدين فقط بهدف المشاركة في التظاهرات".
ويضيف الحمصي لـ"العربي الجديد": "عندما تمكّنا من التغلّب على عناصر الأمن، والوصول إلى الساحة، كان النظام قد اعتقل العشرات، إذ كان كلّ عشرة عناصر أمن يقومون بالانقضاض على متظاهر واحد. وعندما بدأ هؤلاء بإطلاق الرصاص، بدأت ردة الفعل تزداد من المتظاهرين، وخصوصاً مع وقوع قتلى وجرحى. وحينها هُتف للمرة الأولى في حمص "الشعب يريد إسقاط النظام"، فيما قام أحد الناشطين بالصعود فوق مدخل نادي الضباط، ومزّق صورة حافظ الأسد، لتكون تلك الساعة ساعة اللاعودة في حمص".
الغوطة الشرقية
شهدت الغوطة الشرقية منذ الخامس عشر من مارس تظاهرات عديدة، تصدّى لها الأمن بشكل مباشر في دوما وعربين وسقبا وبقية المناطق. إلا أنّ الخروج الأكبر في الغوطة ضدّ النظام بدأ تزامناً مع "الجمعة العظيمة" في 22 إبريل/ نيسان عام 2011، إذ تمّ التنسيق بين الناشطين في كامل مناطق الغوطة وحيّ جوبر شرق دمشق.
وتحدّثت "العربي الجديد" مع الناشط عمر الخطيب، الذي كان من أول ناشطي الحراك السلمي في الغوطة. ويفيد الخطيب بأنّ "المتظاهرين السلميين شكلوا تجمعات عدة في يوم الجمعة العظيمة، وكان التجمّع الأول من مناطق سقبا وحمورية وكفربطنا وعين ترما وحزة وجسرين"، مضيفاً أنه "بعد تجمّع جميع التظاهرات في سقبا، تمّ التوجه من جانب حي جوبر نحو ساحة العباسيين في دمشق".
ويذكر الناشط أنّ التجمّع الثاني كان من متظاهري بلدات زملكا وعربين وحي جوبر، حيث تجمعوا في حي جوبر شرق مدينة دمشق، وبدأوا منه بالمسير باتجاه العباسيين. أما التجمّع الثالث، فكان من دوما وحرستا وبقية المناطق، إذ توجّه المشاركون فيه أيضاً نحو ساحة العباسيين.
وكان النظام حينها قد رتّب لمواجهة التظاهرات ومنعها من الوصول إلى ساحة العباسيين، الساحة الكبرى في دمشق، حيث قام بنشر قوات الأمن والشبيحة سرّاً في الأبنية المحيطة بالساحة.
ويقول الناشط عمر الخطيب إنّ "التجمّع في سقبا كان كبيراً، إذ قدّر عدد المتظاهرين ما بين ثلاثين وأربعين ألفاً. بدأ التجمّع بالسير نحو ساحة العباسيين من طريق المتحلق، وبعد قطع المتحلق الجنوبي والوصول إلى طريق الدباغات الذي توجد في بدايته ثكنة كمال مشارقة، وفي نهايته مجمع 8 آذار، كان الأمن قد تمركز في البناء الأخير. وذلك الطريق لا يوجد فيه أي بناء سكني، بل معامل ومصانع وسوق خضار كبير".
ويتابع الخطيب: "لم يكن هناك أي هتاف في التظاهرة يطالب بإسقاط النظام. وعند وصولنا إلى ثكنة كمال مشارقة، حيّا المتظاهرون "الجيش"، وعبروا من الثكنة من دون أي حوادث. ولكن عند الوصول إلى سوق الخضار، حيث باتت المسافة بين المتظاهرين وساحة العباسيين نصف كيلومتر، بدأ الرصاص فجأة ينهال مثل المطر على المتظاهرين، وكان المصدر الرئيسي للإطلاق مجمع 8 آذار والأبنية المحيطة به. وقع عشرات القتلى والجرحى في الطريق، والناس بدأت بالهرب نحو سوق الخضار، وباتجاه المعامل".
ويلفت الخطيب إلى أنه "في ذلك الوقت، كان النظام قد طوّق المنطقة بشكل شبه كامل، وتمركز في المعامل والمصانع بشكل سرّي، وعند هرب الناس إلى المعامل قام الأمن باعتقال المئات وقتل العشرات هناك، ليبقى نهر بردى، الجهة الوحيدة التي تمكّن المتظاهرون من الفرار منها".
ويقول الناشط: "كنت في الصفوف الأولى وبقيت منبطحاً على الأرض لمدة طويلة وبجانبي جريحان، رأيت الناس تهرب من كل اتجاه، كانت هناك حاوية مهملات على جانب الطريق بقيت وراءها، وبقي إطلاق النار مدة ساعة كاملة. بعدها قمت بالركض باتجاه ثكنة كمال مشارقة، ودخلت من جانبها باتجاه المعامل، كانت الناس تدخل المعامل بالمئات، حيث حاصرهم النظام أيضاً. دخلت إلى أحد الأبنية التي لم يدخلها أحد، وبقيت هناك مع شاب من بلدة حمورية، حيث اختبأنا في إحدى دورات المياه المغلقة في داخل المعمل، وبقيت في ذلك المكان. كنت أسمع صوت كلاب عناصر الأمن وصوت صراخهم على الناس وشتمهم".
ويوضح الخطيب: "الكلاب التي استخدمها النظام في ذلك الوقت كانت بهدف إيجاد الجرحى الذين حملهم المتظاهرون وقاموا بإخفائهم في الأبنية داخل منطقة المعامل... عند غروب الشمس غادرنا باتجاه أحد الأفران، وقمنا بشراء الخبز وحملناه لإخفاء وجهتنا أمام عناصر الأمن. اتجهنا نحو كفربطنا وكان هناك قرابة خمسين قتيلاً قد نقلوا إلى عموم بلدات الغوطة، فيما كان عدد المعتقلين أكثر من ثلاثة آلاف شخص".
وبعد تلك الحادثة، كسر الخوف بشكل كامل لدى معظم أهالي الغوطة الشرقية، إلا أنّ التظاهرات بقيت داخل بلدات الغوطة ولم تتجه نحو دمشق، مرة أخرى.
إلى أين وصلت الثورة؟
يرى الخطيب أنّ "الثورة في البداية كانت نقية، لأن معظم الناس كانت تحمل قلوباً نقية، وكانت تعرّض نفسها للاعتقال والقتل وهي مجردة من أي سلاح. كان هناك إيمان بالمبادئ، وهو أمر ما زال ملموساً لدى السوريين حتى اليوم"، مشيراً إلى أنّ "هناك عوامل عدة دفعت الناس لاتخاذ طريق آخر، فمنهم من لهث وراء المنصب، ومنهم من بقي صامداً على مبادئه".
ويضيف: "الثورة اليوم تعرّضت للانتهاك من السوريين الذين كانوا من أوائل من خرج في التظاهرات أيضاً، وأصبح بعضهم لاحقاً قائد فصيل عسكري أو معارضاً سياسياً أو ناشطاً إعلامياً، فذلك أدى إلى عدم الثقة بالثورة أو عدم التفاؤل بانتصار الثورة من قبل كثير من السوريين". ويردف: "لا يمكننا إخفاء أنّ الثورة اليوم قد هزمت، إذا كنا نعتبر أن نصر الثورة هو انتصار عسكري. النقطة المهمة هو أنّ الثورة فكرة وقيمة عبرت حواجز الخوف وحطمتها، وما زالت في قلوب من خرج بها بحق"، مؤكداً أنّ "هناك من لديه الأمل بأنّ هذه الثورة هي فكرة، وهي كسر الخوف والخروج على الاستبداد، لا النصر العسكري".
بدوره، يقول الناشط باسل فؤاد: "بدأنا الثورة على أمل إسقاط النظام، وبدا لنا أنه ساقط لا محال، ولم نكن ندرك أنّ النظام باق بإرادة دولية، وأعتقد أنّ الثورة حقّقت بعضاً من أهدافها، وكسرت حاجز الخوف". ويضيف: "أمام الأجيال المقبلة فرصة كبيرة لنيل حريتها ورفع الظلم، وحتماً ستستفيد من إنجازات الثورة وتتخطى الثورة العفوية، لتتمكن من الوصول إلى جسم قوي قادر على قهر الظلم وإسقاط النظام".