في أحد أيام عام 1921، جلس الشاعر الإنكليزي الأميركي ت. س. إليوت (1888- 1965) تحت ظُلّة تدعى "سقيفة صخرة فنلاند" تطلّ على رمال شاطئ مدينة مارغيت جنوبيّ إنكلترا، وبدأ بكتابة الخطوط الأساسية لأشهر قصائده: "الأرض الخراب"، المكوّنة من أربع حركات تحاكي حركات السيمفونية الموسيقية، هي على التوالي: دفن الموتى، ومباراة شطرنج، وعظة النار، والموت بالماء. في الحركة الثالثة جاء ذكر رمال واجهة مارغيت البحرية:
"على رمال مارغيت
يمكنني ربط
لا شيء بلا شيء
الأظافر المكسورة لأيدٍ متربة
شعبي المتواضع، شعبي الذي يتوقّع
اللاشيء".
كان إليوت يقضي فترة نقاهة بعد نوبة انهيار عصبي ألمّت به، نفسياً وجسدياً، ولكن هذه السطور التي ورد فيها ذكر اسم المدينة وشاطئها، والأسابيع القليلة التي قضاها هناك، ستعود إلى الذاكرة وتصبح موضع احتفاءٍ مع قرار "مركز تيرنر" المشرف على شاطئ مارغيت ذاته إقامة معرض فني عنوانه "رحلة مع الأرض الخراب" في فترة بدأت من الثالث من الشهر الجاري وتستمر حتى 17 أيار/ مايو القادم. يقدّم المعرض أعمالاً فنية تستكشف لأول مرة العلاقة بين قصيدة إليوت والفنون البصرية.
نُشرت هذه القصيدة عام 1922، بعد وقت قصير من انتهاء الحرب العالمية الأولى، في عالم هشّ ومحطّم مرّ بنوبة انهيار "عصبي" أيضاً، خرج من تحت أنقاضه جيل جديد من الكتّاب والفنانين والموسيقيين. وسرعان ما أصبح يُنظر إلى قصيدة إليوت كواحدة من أكثر أعمال القرن العشرين أهميّة، واستمرت أصداءُ تقاناتها وصورها تتردّد في الأدب والفنون البصرية حتى الزمن الراهن.
يقدّم المعرض ستّين فناناً بما يقارب المئة عمل، إلى جانب لوحات تاريخية وأعمال أخرى معاصرة. وتتراوح الأعمال الفنية بين لوحة إدوارد هاربر، "نوافذ ليلة"، التي تتصادى مع المزاج السائد في القصيدة وتستحضر المارة المتوحدين في زحام المدينة، وبين استجابات فنانين عالميين مثل الفنانة فيبكا تانبورغ، الحائزة في هذا العام على جائزة الفن المعاصر الوطنية في النرويج، والتي تلاعبت في عملها الفني "الأرض الخراب" (2007) بلغة القصيدة وشكلها، وأعمال جديدة أنجزها فنانون خصيصاً للمعرض، مثل منحوتة جون نيولنج لعمل أطلق عليه اسم "دفاتر يوميات إليوت" استغرق تشكيله تسعة أشهر.
هذا المعرض ذروة مشروع استغرق العمل فيه ثلاث سنوات، وجاء تصميمه لإعادة التفكير جذرياً بمسؤولية الأمناء على المعارض ووظيفتهم التقليدية. وعمل "مركز تيرنر"، مع فريق باحثين متطوّعين مؤلف من سكان محليين، على إنجاز العمل كلّه. وجاءت الرحلات التي جسّدتها الأعمال البصرية إلى "الأرض الخراب" نتاج شهور عديدة من مناقشات فريق البحث للصلات الحميمة بين الفن والشعر والحياة في سبيل الوصول إلى معرفة القصيدة.
في أحد المطبوعات المرافقة للعرض، كتبت جودي ديرمت، إحدى المشاركات في فريق البحث، إن تشظّي اللغة والصورة والرؤية الذي كان غريباً وغير مألوف في البداية حين كتب إليوت قصيدته، أصبح أسلوباً مألوفاً وسائداً في عالم الفن والأدب، ولم يعد أحد يتصوّر هذه المبتكرات شيئاً آخر سوى أنها طبيعية، مهما تطرّفت.
وفي إشارة إلى ما يجمع بين أسلوب الأرض الخراب وأساليب الفنون الأخرى، أضافت مخاطبة الجمهور: "تذكّروا أنكم وأنتم ترسلون رسائل هواتف نصيّة، أو تستخدمون أسلوب القص واللصق في الأشكال الفنية والأدبية، أو تشاهدون فيلماً يستخدم "المونتاج" و"الاسترجاع" أو المزج، فأنتم تدركون وتعملون ما يدركه ويعمل بموجبه الحداثيون. وجزء من هذه الثورة الاستثنائية يحدث هنا، في مارغيت، تماماً حيث نقف اليوم".
الطريفُ أن الصحافي ستيفن موس، وقبل أن يفكّر أحد في افتتاح معرض من هذا النوع، زار شاطئ مارغيت في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2009، في سياق حملة من أجل وضع مبنى الظلّة على قائمة الأماكن التاريخية، بحثاً عنها بجوار الساحل حيث جلس إليوت يكتب سطور قصيدته، وعاد وكتب في صحيفة الغارديان عن الحالة المزرية التي وجد فيها المكان ما يلي:
"رأيت ظلة على الشاطئ، وأردت التثبت بالفعل من أنها المكان الذي يمكنني أن أتشرب فيه جوهر قصيدة إليوت.. لا أحد يستطيع التأكيد الآن، حتى وإن طار صيت الظلّة وتصدّر نشرات الأخبار.. حين وصلتُ لم أجد سوى رجل في حالة سكر بيّن ينظر إليّ بارتياب.. لا وجود للوحة تذكارية.. مجرّد بضعة ألواح زجاجية مهشّمة، أو مفقودة، والنوافذ على أحد جوانب المبنى مزركشة بعبارة "أسنان صناعية" بحروف كبيرة خضراء.. ويبدو أن هذه طريقة من طرق إهمال المكان الذي كتبت فيه القصيدة الأعظم بين قصائد القرن العشرين".
ثم يضيف: "مارغيت بحاجة ماسّة إلى أن تكون جذابة مجدّداً، ويمكن أن تكون هذه الظُلة كذلك؛ يمكنني أن أرى منذ الآن أسماء "ممشى إليوت" و "طريق الأرض الخراب" و "بقالة إزرا باوند". ربما لست بصدد كتابة قصيدة، ولكنني أرسم بهذا الخيال خطة لإعادة إحياء مدينة".
وبالفعل، وبعد انتباه أعضاء مجلس المدينة البلدي إلى العلاقة بين أشهر شعراء بريطانيا في الأزمنة والحديثة وهذه الظُلة المطلّة على واجهة مدينتهم البحرية، وبعد مشاركة زوج إليوت الثانية، أرملته "فاليري" في حملة الدعوة لوضعها على قائمة الأماكن التاريخية مع عدد من الفنانين والشعراء، بدأوا باستخدام تعبير "الأرض الخراب" لاجتذاب السياح إلى الشاطئ، والتفكير بإقامة مركز ثقافي باسم الرسام البريطاني الرومانسي وليم تيرنر (1775- 1851)، في مسعى لإحياء مدينتهم ثقافياً، وكان هذا المعرض اللافت للنظر تتويجاً لمسار طويل انطلق من ذكرى تلك الأيام القليلة التي قضاها شاعر تحت ظلة واجهة بحرية.