حياد لبنان وأوهامه الأخرى
طوال تلك الفترة الأخيرة، وباعتراف المهيمنين عليه، لم يكن لبنان محايداً. بَصَمات الوجهة الإيرانية واضحة عليه؛ ارتدَت غالباً لبوس "الواقعية" و"البراغماتية". وكلما بلغ النقاش استعصاء حلّ مشكلاته، قبل الثورة، أو بصرف النظر عنها، كان الإستنتاج المنطقي أننا عاجزون عن تعديل أي ميزانٍ من موازينه، بأننا نصطدم بسور عظيم إسمه الكِباش الإيراني - الأميركي، تطوراته، مآلاته. أي بمعنى أوضح: علينا أن ننتظر نتيجة هذا الكِباش، لكي نستقر على توصيف وجهة لبنان، على شكل العيش فيه، على إمكانية أن نرى ذات يوم كهرباء، أو لا نرى. حزب الله، المتحكّم غير الحاكم، فالحكم إدارة، وليس صيداً في بحر يتناقص فيه السمك يوماً بعد يوم .. حزب الله هذا تمكّن من إزاحة "شركائه" في المحاصصة، خصومه الرسميين، حتى باتَ أمينه العام، حسن نصر الله، بطلاّته التلفزيونية، يصدر أوامر السماح بهذه الوجهة أو تلك، بهذا التعامل أو ذاك؛ مستقوياً برخاوة النداءات والتصريحات الصادرة عن أولئك الخصوم القائلين بـ"الناي بالنفس". يقفز فوق كل الإعتبارات وتدخل مليشياته وبسلاحها وعقيدتها إلى سورية؛ حيث عاثَ إجراماً وتهجيراً وسرقة وفرزاً مذهبياً.. دفاعاً عن المحور الإيراني الذي ينتمي إليه، ويعمل بتعليماته بصراحة تامة، فأصبح بذلك يستمد قوته من هذا الدور البرّاني القبيح.
تمكّن حزب الله من إزاحة "شركائه" في المحاصصة، خصومه الرسميين، حتى باتَ أمينه العام، حسن نصر الله، بطلاّته التلفزيونية، يصدر أوامر السماح بهذه الوجهة أو تلك
ثم جاء "قانون قيصر". تلك اليقظة الأميركية المتأخرة، والمجْبولة بمائة اعتبار واعتبار، لتذيق لبنان، غير المحايد، المرتمي في أحضان الممانعة، العقوبات المعلومة. "اليقظة" الأميركية تلك، الأنياب الأميركية المسْتجدّة، تبعتها، بسرعة، "صحوة" أميركية أوروبية، بدأت ديبلوماسية، وسرعان ما أصبحت "عملية"، تمثلت بالدعم الفاتيكاني لأكبر مرجع مسيحي في لبنان، من أن علينا، إذا أردنا الخلاص لوطننا، أن نكون محايدين، كما كنا في الأيام الخوالي، أي في عصرنا "الذهبي" المتخيَّل.
والثقة بهذا الحياد تلغي المعادلة المنطقية القائم عليها. إذ كيف يكون حياداً وهو لم "ينبعث" إلا بفضل تلك الوثبة الغربية المتأخرة؟ هل نحارب انعدام الحياد لدى حزب الله بحياد مدعوم خارجياً؟ أي عملياً بعدم الحياد؟ ثم بالعودة إلى عصور الحياد الماضية: هل كنا محايدين فعلاً؟ أم ساكتين عن كذبة الحياد بما توفره من ازدهار اقتصادي استثنائي، على حساب نكبات المنطقة؟ مراجعة بسيطة لهذا التاريخ القريب تبيِّن أننا، طوال عمرنا، كنا واضعين أنفسنا تحت تجاذب دولي إقليمي، هو الصانع الحقيقي لهذا التاريخ. والأمثلة لا تنضب: عن عهد كميل شمعون، الميال إلى حلف بغداد، المعادي للحلف العروبي بقيادة جمال عبد الناصر، والذي انتهى عهده بثورة بقيادة كمال جنبلاط، الرافض هذه السياسة، بدعم عروبي أيضاً إنقلب عليه لاحقاً. وما تبعه هذا العهد من "هندسة" إقليمية، شارك فيها عبد الناصر نفسه، جاءت بفؤاد شهاب رئيساً، ليُرسى، ولو مؤقتاً، "توازناً بين الشرق والغرب".. أو عن الوصاية السورية على لبنان، بصفتها أيضا ترتيبا مقبولا غربياً، أو بداية هذه الوصاية، مع رفيق الحريري، بتقاسم للمهمات، بين "مقاومة" واقتصاد.. ثم الاتفاق السوري - السعودي، بعد اغتيال الحريري؛ ومجمل "المسامحات" التي ترتبت بناء عليه... إلخ.
هل نحارب انعدام الحياد لدى حزب الله بحياد مدعوم خارجياً؟ أي عملياً بعدم الحياد؟
نداء المرجع الديني الملحّ على تبني الحياد اللبناني، حلاً لأزمة اختلال الميزان لصالح المحور الإيراني. هذا النداء تلقّته الزعامات والشخصيات، بصفته خشبة خلاص من هيمنة حزب الله على مصير البلاد؛ أو أداة "إيديولوجية"، تتصدّى لليهمنة الإيرانية الحزبلاهية، فتنقذ البلاد من سقوطها التاريخي، فتقوى الشوكة الأميركية بذلك، ويكون الكباش بين طرفين على مقربةٍ من التساوي؛ فنستأنف بذلك عهد الحياد والازدهار و"سويسرا الشرق"... إلخ. تلك هي الكذبة التي بدأت جبهة عريضة من السياسيين "المحرومين" تتجاوب معها، فتظهر بصفتها حاملة للحل الذي لن يتأخر بالكشف عن حسابات "الرعاة" الدوليين أو الإقليميين، عن اتفاقاتٍ في ما بينهم، ترسي استقراراً لبنانيا ببلوغ الصراع الأميركي - الإيراني نتيجة محدّدة.
كلا أيها السادة. فكرة الحياد هذه مغشوشة، كما هي مغشوشة بضاعتكم السياسية الأخرى... يفترض الحياد على المثال السويسري، أو غيره من النماذج، إذا أجمع عليه اللبنانيون، أن يتعلموا شيئاً من حياده السابق، في عصره "الذهبي"، بأن يعملوا، قبل إقراره، على بناء دولة قانون، حيث الجميع، بصرف النظر عن طائفته، خصوصا طائفته، متساو بالحقوق والواجبات. حيث لا تحتاج أية طائفة للاستقواء بخارج ما، شرق أو غرب، بالسلاح أو بالمال، لكي تحصل على هذه الحقوق. أي تفترض اندماجا وطنيا في تلك الدولة العتيدة، موقفاً وطنياً واحداً حول الخطوط العريضة لكل القضايا أو الصراعات، البعيدة منها والقريبة. حيادٌ صادق، حقيقي، تحميه شرعة ودستور؛ لا تلاعب أو تخابث أو مزايدات أو سجع؛ وجميعهم يغنون عن العقل. والحياد، مع الصدق به، يفترض روحاً استقلالية حقّة، نظافة كفٍّ نسبية، إذ لا جنة ملائكة في السلطة، ولكن شيئاً منه؛ على الأقل للتطابق، النسبي أيضاً، بين الإدعاءات والتصرفات. تفترض الحيادية موارد لاستمرار دولةٍ كهذه، موارد جدية، لا هزلية، تقوم ببنائها سواعد أبنائها، ولا علاقاتهم "المميزة" مع هذه الدولة أو تلك، ولا بهْلوانات مصارفهم المخزية التي تتستر عليها كل القوى، بما فيها المعادية لها في خطاباتها وأهازيج متظاهريها السُذَّج. وهذه مقوماتٌ تحصّن تلك الدولة المتصورة من بيئتها الإقليمية المتفجرة؛ وربما تلعب دوراً في إخماد نيرانها، أو تتوسّط المتخاصمين من بين أصحاب الأدوار فيها.
لدى الذين لا يرتضون بلبنان أقل من انضوائه تحت المحور الإيراني حجة واحدة: فلسطين والقدس
والحال، كما نعرفه جميعاً، أننا لا نملك من هذا كله غير التصورات البائتة عن لبنان "الأبدي" ولبنان "المعنى" ولبنان "التعايش".. أما الباقي، فانفلاتٌ متمادٍ من الأخلاق السياسية، وفراغ في المعاني والكلمات، وشحاذة على أبواب الأصدقاء والأعداء، وبقعة من شرق المتوسط أصبح العيش فيه هو مجرّد استمرار على قيد الحياة؛ ليس لشعبٍ بعينه، إنما لشعوب متعاديةٍ تقذف يوميا بسمومها على بعضها أكثر مما تقذف بوجه الأعداء المعتادين. ولا حاجة لمزيدٍ من الوصف لمن يرى بالعين المجرّدة ما حلّ على لبنان من دمار.
لدى الذين لا يرتضون بلبنان أقل من انضوائه تحت المحور الإيراني حجة واحدة: فلسطين والقدس. أي أننا كيف لنا أن نكون حياديين وإسرائيل المعتدية الغاشمة تحتل فلسطين، وتتهيأ لقضم ما تبقى منها؟ أي "صفقة القرن"؟ وبهذا هم يكذبون أيضاً، عملاً بالحكمة السياسية اللبنانية التي يعتقدون أنها تبقيهم على قيد الهيمنة، فالواقع أنهم يعاملون الفلسطينيين الأقرب إليهم، أي فلسطينيي المخيمات في لبنان، بعكس ما يدّعون من صبابة لأرض فلسطين. أو أنهم لا يخلطون بين فلسطين والفلسطينيين، فهم يضعونهم تحت قبضتهم العسكرية التامة، يطوّقونهم، يحرمونهم من أبسط حقوقهم المعيشية؛ ولا حتى أدبياتهم تحاول أن تخدع، أو تتكلّف كثيراً حين تقول إنها مهتمة بالفلسطينيين، متعاطفة مع شقاوتهم، أو عاملة على رفع القيود القانونية الخانقة التي تشوب حياتهم ويومياتهم وتلغي مستقبلهم. في "الساحة" السورية، أيضاً، المنذورة رسمياً لمحاربة الإمبريالية والصهيوينة، أخذ حزب الله راحته مع الفلسطينيين في سورية. على الأقل، كان شريكاً فاعلاً في حصار مخيم اليرموك الفلسطيني، في تجويع أهله، وتهجيرهم. وفي النهاية، بإلغاء المخيم عبر التمهيد لمصادرة أرضه لصالح خزينة بشار الأسد المثقوبة.
يحتاج اللبنانيون إلى ثورة حقيقية تجرف الأوهام والأكاذيب، وتعمل على ثقافة أخرى، دولة أخرى، أخلاق أخرى، موارد أخرى
إنها السياسة اللبنانية الأبدية القائمة على الغش، على التهام القضايا الكبرى وتحويلها إلى مسخرة مبكية، بحيث يسهل تشبيه علاقة أولئك المحبيّن لفلسطين والقدس بتلك التي يقيمها الاحتلال الإسرائيلي مع أصحابهما. بل ربما أشرس، لأنها محجوبة، مستورة بقشرة "تحرير كامل التراب"، و"الجهاد" الرناّنة، وإلى ما هنالك من فصاحةٍ حانَ للدهر أن يأكلها ويشربها. وقوفهم ضد الحياد بذريعة فلسطين لم تَعُد قائمة من زمان. ولكن ماذا تفعل بأجهزة إعلام ذات أجنْدة تنفخ فيها الروح، فتخلّد الكذبة؟ وطوائف تحتمي من بعضها؟
إذا كان غالبية اللبنانيين راغبين بالحياد، بالمعنى الواسع الوارد أعلاه، فهم يحتاجون إلى ثورة حقيقية تجرف الأوهام والأكاذيب، وتعمل على ثقافة أخرى، دولة أخرى، أخلاق أخرى، موارد أخرى. وربما شعب آخر.. أما تلك الإيماءات والإشارات والمؤتمرات الصحافية و"الحوارات" بين الأطراف حول السبيل لبلوغ الحياد، فليست سوى عضمة مهترئة نمْضغها، على قساوتها، على أمل أن يتعدّل ميزان القوى بين الأطراف الإقليميين والدوليين، فيُترجم التوازن بينهم على أرض لبنان باستقرار هش، لن يلبث أن تخضّه صراعاتٌ لاحقة، مشاريع أخرى.. أليس هذا اختصاراً لتاريخ لبنان الكبير؟ أو لما قبله، لبنان الصغير؟