حياة بين جنازتين

26 نوفمبر 2014
كنا نرى البوعزيزي في كل ركن (Getty)
+ الخط -

عندما يختزل الموت رحلة الحياة وننهي معه سيزيفية موهومة لنكتشف بعدها أننا لسنا أبطالا ما لم نجرب الموت، كلمات من سفر الميدان كتبتها للراحلين الذين لم ألتقِهم.. وزينب رحلت لوحدها دون أن ألتقيها، ودون إذن القيادة، ولم تسأل المشايخ عن فتوى، ولم تبحث في التاريخ عن صنم يرافقها إلى المقبرة.. نسيت أن تخبرنا عن موعد الجنازة، واكتفت بـ"ما فيش فايدة".. أكيد يا زينب "ما فيش فايدة "، فالفايدة في البنوك، وأنت لا تملكين رصيدا، إلا دموعنا التي تستحي منا، ولكن "إحنا بنعمل اللي علينا"...

بهذه الروحية وبهذه الكلمات العميقة والأحاسيس المركبة (وليست المعقدة) اختارت الناشطة والمناضلة المصرية زينب مهدي عنوان سفرتها لتلحق برفيقها في النضال من الجارة تونس، الشهيد محمد البوعزيزي، وهو ينتظرها في مكان ما بيننا.. كلاهما اختار جسده ليقول لا.. كلاهما رفض الانحناء.. كلاهما احتج فرجَ.. البوعزيزي لسلعته المحجوزة.. وزينب لحريتها المحجوزة.. وكرامتنا محجوزة بين هتاف وهتاف.. البوعزيزي أشعل النار في جسده.. وزينب أشعلت نارا فينا.. كلاهما أراد الحياة، وكلاهما مات.

البوعزيزي أوقد حالة ثورية شاركت فيها زينب، وطبعاً كثيرون من مجايليهم، تلقفت الألم والحلم.. متوهجة كأي "ورد مفتح في جناين مصر".. في لحظة ما يجب أن نختفي أن نغيب أن نرحل، وكلاهما اختار ساعته بدقة، حيث لا ينتظرهما أحد.. هكذا ينبني الاختيار الناجح.. التوقيت الحسن.. الصرخات المختنقة مع البوعزيزي، والوعي المزيف بالإنجاز عند زينب.

زينب الناشطة ذات التجربة الفكرية والحزبية والبوعزيزي البائع البسيط وعربته المتواضعة.. اختلفا في التوصيف واتفقا على احتضان روح العالم.. التمرد على المجتمع، على الطبيعة وعلى معارفنا.. كسروا الصورة المبتذلة للمنتحر.. إما أن تخونه حبيبته أو يهجرها حبيبها.. كلاهما اندسّ في جنازة الآخر بلطف وهدوء ولم يبحث في وجوه المعزين فكلهم قتلة. من حالة "الاستبداد الرمزي" إلى المقاومة الرمزية والجسد هو أرض المعركة، علَم كلاهما بصمته في حالة استعارة جميلة بقبحها وعلَمانا لغة جديدة لم نفهمها.

زينب والبوعزيزي اختارا معجما وحقلا دلاليا مختلفا.. الموت والحياة.. الجنة والنار.. الميدان والميدان.. حيث لا ينفرد معنى واحد بكلمة واحدة، فلقد حررا اللغة من الكلام.

مازلت أذكر ذلك اليوم.. يوم تنحّى حسني مبارك عن الحكم.. كانت تونس لا تزال تحت طائلة قانون منع التجول، غامرت وخرجت لأذهب أمام سفارة مصر، وأغني فرحانين فرحانين، وأنتظر أن يضحك البحر.. وإذا بتونس ليلتها كلها مغامرة أنعشت الحس الثوري من جديد.. كنا نرى البوعزيزي في كل ركن.. في الميدان كانت زينب ككل حرائر مصر بين عالمين، الثورة والفرحة.. واليوم، وقد لحقت زينب بالبوعزيزي، إلى أي سفارة سأذهب حتى أغني لـ(بهية).

رحلت زينب ليس لأنها لم تعد تثق بالقانون والمجتمع "ما فيش عدل"، ولكن لأنها لم تعد تثق بالإنسان.. ورحل البوعزيزي كذلك وهو لا يثق إلا في عربته، وقد نرحل جميعا وبداخلنا ثورة مستترة تقديرها إنسان.

زينب كما البوعزيزي، ليسا موضوعا لبحث علمي ونفسي أو خطبة جمعة مملة.. إنهما الإنسان عندما يخترق جدار الصمت عن المقدس.. هي دعوة لإعادة ترتيب البيت الداخلي.

زينب كما البوعزيزي، من أبناء هذا الشعب الفقير، من أولئك المسكوت عنهم، تمردوا على سلطة النموذج وحكايات الجدة وبشَرا في حياة بين جنازتين.

*تونس

المساهمون