حياة بدائيّة

06 سبتمبر 2017
كان يا ما كان... (مارال رحمن زادة)
+ الخط -

"حياتك أهمّ من اتّصالك". "حزام الأمان ينقذ حياتك". وتتوالى التحذيرات والنصائح باللون الأحمر، على شاشة إلكترونيّة كبيرة منصوبة فوق الطريق السريع الرابط بين تلك المنطقة الجبليّة والعاصمة بيروت. تتوالى والهدف منها الحفاظ على السلامة المروريّة والحرص على "الحياة".

في صبيحة ذلك اليوم، كان أحد الشيوخ يذيع عبر مكبّر للصوت خبر وفاة أحدهم. تقترب أكثر من الواجهة الزجاجيّة في بيتها الجديد، وتنصت. الخبر المُذاع يأتي من المقلب الآخر، من إحدى القرى الواقعة على كتف ذلك الجبل المقابل. يغمرها شعور بالغبطة. ليس خبر الموت ما يثير ذلك الإحساس، بلا شكّ، إنّما ذلك الصوت الآتي من بعيد. لم يكن صدىً تردّده الوديان التي تفيض بأشجار صنوبر، بعضها معمّر وبعضها ما زال غضّاً نضيراً.

لوهلة، تشعر بأنّها في واقع آخر أكثر ملاحة، واقع لطالما تمنّت لو أنّها خبرته. هو الواقع نفسه الذي سردته لها قبل سنوات طويلة جدّتها، وهي تخبرها عن التواصل الذي كان في قريتها. هي ابنة قرية كذلك. قرية جبليّة لا بدّ أنّها تشبه إلى حدّ كبير تلك التي صدح منها إعلان الوفاة ذاك، وتلك القرية التي اتّخذتها اليوم مسكناً لها. جدّتها أخبرتها أنّه في ذلك الزمن، في العقود الأولى من القرن العشرين، كانت تنادي شقيقاتها الموزّعات في أرجاء القرية، لتعلمهنّ بوصول بريد من شقيقهنّ المهاجر إلى البرازيل. لم تكن ثمّة خطوط هاتف في ذاك الزمان والمكان، فكانت أصواتهنّ الصادحة في فضاء قريتهنّ الخضراء - تحوّلت اليوم إلى بقعة تحوي كتل إسمنت شنيعة - تفي بالغرض ومن دون مذياع. أصواتهنّ تلك كانت أشبه بنبض يجزم بحياة.. حياة تلك القرية وأهلها.

في ذاك الزمان والمكان، لم تكن تلك النداءات تهدّد حياة الجدّة وشقيقاتها، ولا حياة سواهنّ من أهالي القرية. كان من الممكن أن يتعثّرنَ خلال صعودهنّ إلى سطح البيت أو هبوطهنّ منه، ليس أكثر. أسطح البيوت التي كانت تُشيَّد حينها من طبقة واحدة، لطالما مثّلت الموقع الاستراتيجيّ لإطلاق تلك النداءات. على تلك الأسطح، كنّ كذلك يتركنَ رسائل لبعضهنّ بعضاً من خلال نشر غطاء مائدة أبيض أو آخر من لون مختلف، بعد اصطلاحهنّ على معنى كلّ واحد من الألوان.

لا شكّ في أنّ تلك الحياة كانت ممتعة ببدائيّتها. لطالما ظنّت ذلك، وهي تصوّر في خيالها ذلك المشهد. غطاء أحمر يمرجحه الهواء على سطح بيت إحداهنّ، فتتوجّه الشقيقات الأخريات صوبها. ثمّة أمر ضروريّ، لا بدّ من مناقشته. لطالما شعرت بغبطة غامرة وهي طفلة تصوّر مشاهد من ذلك الواقع، وتتماهى مع ما كان قبل عقود بعيدة. وتعود لتستعيد الغبطة نفسها، عند سماع خبر الوفاة المُذاع من القرية الواقعة على كتف ذلك الجبل المقابل. ليس خبر الموت ما يثير ذلك الإحساس، بلا شكّ، إنّما الصوت الآتي من بعيد.. الصوت الذي حملها إلى زمن بعيد غابر.


دلالات
المساهمون