حلم من ورق ونار

03 اغسطس 2018
+ الخط -
في أحد تلك الأيام الدراسية، حين كنت طالبًا في المرحلة الابتدائية، رجعت إلى منزلي في مخيم اليرموك في سورية، وعلامات البهجة والسرور تظهر على عيني بوضوح فاضح.
علمت يومها، في أثناء الحصة المخصصة لدرس القراءة، أن عباس بن فرناس استطاع الطيران مدة قصيرة جدًا. أخذت هذه المدة، مني ليلة كاملة، وأنا أعمل فيها على صنع بعض الأجنحة الورقية مستعينًا بورق الدفاتر والمجلات، سرقتها من خزانة والدي قبل أن تمسك بي والدتي متلبسًا، فتذرعت بالعلم والفضول وسيلة للهروب.
مضيت إلى مرحلة الإعداد النهائية قبل التجربة الأولى، جلبت مكنسة الحمّام المصنوعة من القش، استعملتها كذيل علقته على خاصرتي بعقدة محكمة بواسطة "كركر خيطان"، من أجل عملية التوازن "الذي أغفل ابن فرناس استخدامه لنجاح عملية الطيران بشكلها الكامل". حكمًا لم أعرف يومذاك، أن الأمر يحتاج إلى أكثر من كركر خيطان ضخم، أحكم فيه توازن عقلي. حين تسلقت خزانة الملابس التي ترتفع عن الأرض مسافة مترين وحلم رسمته في سبيل الوصول إلى مدينة أحلامي، التي حطمتها مررًا وتكرارًا لحظة اصطدامي بالأرض في كل مرة أعيد فيها الكرة على مدى سنوات عديدة.
توالت الأيام والسنين، وأصبحت في العشرين من عمري، ولا يزال حلم الطيران يراودني بين الفينة والأخرى. قرأت كتبا وقصصا وروايات بوليسية شيقة، وحلقت عبر شخصياتها وأبطالها إلى عوالم بعيدة وواسعة، تجمعهم مخيلتي التي بدأت تمارس الطيران من جديد. لكن، بشكل آمن وأفضل بكثير من خطة ابن فرناس التي بدأت ملامحه تخبو شيئًا فشيئًا بعد أن عاثت في دماغي الخراب فترة طويلة.
هذي العوالم والفضاءات صغيرة الحجم والتكوين لا تقاس بثقب إبرة للخياطة، إذا ما قورنت بما جناه قلبي فيما بعد من حب وهيام وشوق أصابني به للمرة الأولى في بداية المرحلة الجامعية قبل سنتين من بدء الحرب في سورية. استطاع الحب أن يأخذني إلى أماكن أبعد بكثير مما كنت أعرفها، أو قد تخيلتها في صباي. أعاد إليّ أمل التحليق من جديد، فشرّع لقلمي بادئًا العبور إلى سطور العشق والتأمل حيث المتنبي وامرؤ القيس، عنترة، قيس بن الملوّح وولادة بنت المستكفي، ثم سطور التمرد والغيرة حين اكتمل وعيي الوطني تجاه فلسطينيتي، فكان محمود درويش أول العابرين إلى أذنيّ في قصائده وأشعاره، ثم أمل دنقل ومظفّر النواب والطيب صالح وغيرهم ممن أعانوني في فترات الجفاء والهجران، وتقلبات العاطفة الخرقاء بأشكالها وشخوصها المارّين في حياتي قبل أن أستقر على واحدة من قصائد لورد بايرون (عندما افترقنا) التي أخذت من كلماتها، جرعتي الأولى والأخيرة في مفهوم الحرية والتباساتها، حين تزامن وقت قراءتي لها مع فراقين أليمين، فراقي حبيبة لم تحتمل فيها أجنحتنا الصمود أمام طائرات الموت وقذائفها ورصاصها، وفراقي أرض سورية واليرموك إلى أجل غير مسمى.
بعد ثمانِي سنوات من اندلاع الحرب التي لا تعرف كيف تطفئ نيرانها في سورية، الصورة الوحيدة التي بقيت معلقةً في ذاكرتي، تعود لثلاث طائرات من نوع هليكوبتر كانت تحلق فوق رأسي في الشارع الترابي في "يلدا" حيث حظيرة المواشي التي اختبأت فيها مدة ست ساعات إلى حين توقفت رشقات القذائف والرصاص قبل عودتي وعائلتي إلى اليرموك. هذه الطائرات الثلاث التي أرسلها النظام السوري لقصف المناطق المتاخمة لمخيم اليرموك (يلدا، ببيلا، الحجر الأسود) التي تتواجد فيها عناصر من مقاتلي الجيش الحر حيث كانوا يتمركزون فيها، أدخلتني في معركة مع الرياح والسماء والأحلام الطفولية التي بنيتها من قصاصات ورقية في سبيل التحليق إلى حتف تجنبته مصادفة حين رأيت بأم عيني ما تفعله الطائرات عادة في الأعلى، فصرت أخشى الورق والطائرات والسماء مدة طويلة، بت أمشي بخطَىً بطيئة الألم، أجترع حلم التحليق والطيران في كؤوس مشؤومة تملؤها ذكريات الراحلين والغائبين عن وطني إلى بلاد الغيب والمنفى، فبقيت وحيد نفسي ثانية في غرفتي الصغيرة في بيروت، كما كنت أفعل بعد عودتي من حصة القراءة عندما كنت صغيرًا. لكن على غير إرادتي هذه المرة وفي بلد آخر، متلاشيًا من جديد بين دفاتري وكتبي، تشاركني أرواح ورقية بائسة تشبهني، أرى ماريّا، وهي ما تزال تبحث عن نفسها في شقتي المتواضعة، وباولا الغائبة عن كل شيء إلا عن سطور والدتها، إيزابيل الليندي، وميرسولت شقيقي في اللامبالاة، وراسكولينكوف ورحلته الغارقة في التيه وغياهب الضمير، وأمير خان الذي ظلّ يراقب صديقه "الهزاره" حسن عدّاء الطائرة الورقية، كيف تنتهك آدميته مرأى عيناه، مثلما أنا فعلت حين تركت بلادي، وجئت لبنان أرقب من بعيد دمار مخيمي وذكريات طفولتي التي بقيت معلقة بذيل طائرتي الورقية، تذروها رياح النسيان.
B9414115-9678-4855-9D4F-3F7537C37951
B9414115-9678-4855-9D4F-3F7537C37951
سلام أبو ناصر (فلسطين)
سلام أبو ناصر (فلسطين)