18 نوفمبر 2024
حلب تختبر قدرة روسيا على فرض حلها الأزمة السورية
تتعرّض مدينة حلب، منذ 22 نيسان/ أبريل الماضي، لقصف جوي عنيف من طائرات النظام السوري وطائرات روسية، طال الأسواق فيها، والمشافي والمراكز الطبية والمدارس وغيرها من المنشآت المدنية، وخلّف أكثر من 250 قتيلًا ونحو 1500 جريح، فضلاً عن التسبب في دمار هائل، هجر نتيجته الآلاف من المدنيين دورهم ومساكنهم، واتجهوا إلى مناطق أكثر أمناً في ريف المدينة.
هذا القصف هو التطور الميداني الأبرز منذ الهدنة التي تمّ التوصل إليها بين الرئيسين الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين، يوم 22 شباط / فبراير 2016، وبدأ العمل بها بداية من 27 من الشهر نفسه، واستثنيت منها المناطق التي يسيطر عليها كل من تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة. وبما أنّ المناطق التي تتعرّض للقصف حالياً في مدينة حلب تقع خارج سيطرة التنظيمين، فقد بدا مستهجناً استهدافها بهذه الصورة العنيفة، على الرغم من أنه تمّ تسجيل أكثر من ألفي خرق للهدنة، قام بها النظام في مناطق مختلفة من سورية في الأسابيع الثمانية التي أعقبت سريان الاتفاق. صحيح أنّ جيش الفتح يجمع فصائل عديدة منها جبهة النصرة، ولكنّ القصف الذي لم يستثن المستشفيات، لا يميز بينها، والأخطر من ذلك أنه لا يميز بينها وبين السكان المدنيين. وهذا يحيل على مجموعة من الأسئلة، منها: لماذا يتمّ استهداف الأحياء المدنية التي تسيطر عليها فصائل المعارضة السورية في مدينة حلب؟ ولماذا تغطي روسيا الهجوم الوحشي، لا بل وتشارك فيه، في خرقٍ فاضحٍ لاتفاق الهدنة الذي تُعدّ أحد راعييه؟ ولماذا تصرّ موسكو، أيضاً، على استثناء حلب ممّا سمّي اتفاق "هدنة الصمت" الذي جرى التوصل إليه بين الجانبين، الأميركي والروسي، وشمل مناطق في ريفي دمشق واللاذقية، والاستمرار في التعبير عن رفضها الضغط على النظام، لوقف الهجوم على المدينة؟
استئناف محاولات حصار حلب؟
يبدو القصف الذي يتعرّض له الجزء الذي تسيطر عليه المعارضة من المدينة تتمّةً لخطة استكمال حصارها، والتي توقف العمل عليها في شهر شباط/ فبراير الماضي، بسبب اتفاق الهدنة الذي مهّد السبيل لإطلاق الجولة الثانية من مفاوضات جنيف 3 التي بدأت في 29 كانون الثاني/ يناير الماضي. كما يمثّل محاولة لتهجير من تبقوا من السكان، والضغط على المعارضة المسلحة السورية في حلب، لكي تفكك تحالف جيش الفتح، وترضخ لشروط التفاوض الروسية.
خلال الفترة التي أعقبت التوصل إلى قرار مجلس الأمن 2254 في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015، ونص على تنفيذ خارطة الطريق التي تضمّنها اتفاق فيينا لحل الأزمة في سورية، قاد الروس حملةً عسكريةً واسعةً لتحسين مواقع النظام التفاوضية، قبل استئناف محادثات التسوية في جنيف. وبناء عليه، حققت قوات النظام، المدعومة بقوات إيرانية وميليشيات من العراق ولبنان وغيرها، اختراقاتٍ في ريف حلب الشمالي، بعد أن وضعت روسيا ثقلها لكسر حالة الاستعصاء العسكري، وقلب موازين القوى لمصلحة حليفها، مستفيدةً من حالة تسليم أميركي بسياستها في سورية.
ووضع الروس حصار فصائل المعارضة في حلب، وقطع خطوط الإمداد التي تصلها بتركيا، في مقدمة قائمة الأهداف الميدانية التي سعوا إلى تحقيقها. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، أمّنت روسيا غطاءً جوياً لعملية عسكرية واسعة في ريف حلب الشمالي، بدأت أواخر شهر كانون الثاني/ يناير 2016، واستطاعت يوم 3 شباط/ فبراير إغلاق "الكوريدور" الواصل بين مدينة أعزاز على الحدود السورية التركية والقسم الذي تسيطر عليه المعارضة من مدينة حلب.
في الوقت نفسه، باشرت "قوات سوريا الديمقراطية" التي تشكّل وحدات الحماية الكردية عمودها الفقري، تحت غطاء ناري كثيف من الطائرات الروسية، التقدّم من عفرين في اتجاه الشرق، مشددةً الخناق على طريق حلب - أعزاز، على حساب قوى المعارضة السورية التي تواجه داعش. وفي العاشر من شباط/ فبراير، تمكّنت فصائل تطلق على نفسها اسم "جيش الثوار"، تنضوي تحت راية "قوات سوريا الديمقراطية"، من السيطرة على مطار منغ الإستراتيجي الواقع في ريف حلب الشمالي، على طريق حلب – أعزاز، واستمرت في التقدم شمالاً وشرقاً على حساب قوات المعارضة السورية في اتجاه الحدود مع تركيا، فسيطرت على مدينة تل رفعت، أحد أهم معاقل المعارضة السورية شمال حلب، في 15 من الشهر نفسه، قبل أن توقف المدفعية التركية تقدمها في اتجاه مدنية أعزاز.
بعد نجاح قوات النظام في قطع طريق حلب - أعزاز، كانت معظم التوقعات بخصوص الإستراتيجية التي يشرف على تنفيذها الروس تؤشر إلى قيام قوات النظام بعملية عسكرية، انطلاقًا من مدينة خان طومان، جنوب غرب حلب، في اتجاه إدلب، وصولاً إلى معبر باب الهوى، لقطع طريق الإمداد الأخير عن القسم الذي تسيطر عليه المعارضة من مدينة حلب، واستكمال حصارها.
لكنّ الهدنة التي جرى التوصل إليها بين الرئيسين أوباما وبوتين، يوم 22 شباط/ فبراير، أوقفت مؤقتاً خطط استكمال حصار حلب. وقد أظهرت الهدنة، في ذلك الوقت، وجود تفاوتاتٍ في مواقف أطراف جبهة النظام، ففي وقت رأت فيه روسيا أنها أثبتت قدراتها العسكرية من خلال تمكين النظام من تحقيق اختراقاتٍ مهمة ضد المعارضة، وأنه حان الوقت لاستثمار ذلك سياسياً في العلاقة مع واشنطن، فضلاً عن مخاوفها من تصعيد حلفاء المعارضة الذين عبّروا عن رفضهم القبول بهزيمتها، كان النظام وحلفاؤه الإيرانيون الذين استقووا بالتدخل الروسي يصرّون على الاستمرار في الضغط على المعارضة، أملاً في هزيمتها عسكرياً، وذلك قبل أن يقدّموا أنفسهم بصفتهم الطرف الوحيد القادر على مواجهة تنظيم الدولة وهزيمته. من هنا، يمكن فهم تصريحات رئيس النظام السوري عن عزمه استعادة السيطرة على كامل الأراضي التي خسرها للمعارضة، وردّ السفير الروسي في الأمم المتحدة الذي استنكر هذه التصريحات.
إستراتيجية فرض الحل الروسي
بعد أن أثبت روسيا قدراتها العسكرية، ساد اعتقاد أنها تريد، الآن، أن تثبت قدرتها على اجتراح حل سياسي للأزمة السورية. من هنا، قرّرت أن تسير في طريق الحل، إنّما الحل الذي تريده هي، وظهرت بعض ملامحه في الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إلى موسكو في نهاية آذار/ مارس الماضي، ولقائه الرئيس بوتين. ذهب كيري إلى موسكو للاستفادة من الزخم الذي مثّله قرار بوتين سحب جزء من قواته من سورية في الخامس عشر من شهر آذار/ مارس، وجرت ترجمته على نطاق واسع بأنه محاولة روسية للضغط على الأسد لقبول تسوية سياسية، بعدما أدى التدخل الروسي ليس فقط إلى منع إسقاطه عسكرياً، بل أيضاً إلى "تغيير نسبي" في موازين القوى على الأرض لمصلحته.
خلال اللقاء، تلمس الروس ضعف تمسك كيري بمطلب رحيل الأسد في المرحلة الانتقالية، فاقترحوا أن يتمّ الإبقاء على الأسد، وحتى السماح له بالترشح للانتخابات المزمع إجراؤها في نهاية المرحلة الانتقالية، في مقابل تعديل الدستور وتحويل نظام الحكم في سورية من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني، على نحوٍ يصبح فيه الرئيس منتخباً من البرلمان، بدلاً من الشعب ويتمتع بصلاحيات بروتوكولية، في حين تحصل الحكومة الموسعة التي سيجري تشكيلها من النظام والمعارضة ومستقلّين على السلطات الحالية التي يحظى بها رئيس الجمهورية، بما في ذلك سيطرتها على الجيش والأمن. ويبدو أنّ كيري وافق على الطرح الروسي، وعلى أن يكون التركيز في المرحلة المقبلة على تعديل الدستور، أو إعادة كتابته، بدلاً من التركيز على موضوع هيئة الحكم الانتقالي والبحث في مستقبل الأسد، كما تطالب المعارضة، وأن يتمّ الانتهاء من ذلك بحلول شهر آب / أغسطس المقبل.
خلال الجولة الثالثة من المفاوضات غير المباشرة في جنيف، والتي انطلقت منتصف نيسان/ أبريل، حاولت موسكو فرض أولوية تعديل الدستور وتشكيل حكومة موسعة على المعارضة، متبنّيةً وجهة نظر رئيس النظام السوري الذي يرى أنّ الانتقال السياسي يعني الانتقال من دستور إلى دستور آخر. وحاولت موسكو الضغط على المعارضة لقبول هذا المقترح من خلال الضغط عسكرياً، قبل المفاوضات وفي أثنائها، وكذلك استخدام القضايا الإنسانية التي كان يفترض أن تكون خارج إطار العملية التفاوضية، مثل إيصال المساعدات الغذائية إلى المناطق المحاصرة وإطلاق سراح المعتقلات والمعتقلين التي نصت عليها المادتان 12 و13 من القرار الأممي 2254.
لكنّ تمسّك الهيئة العليا للمفاوضات بموقفها الداعي إلى إنشاء هيئة حكم انتقالي، لا يكون الأسد جزءًا منها، ثمّ تعليقها مشاركتها في المفاوضات، استجابة لضغوط فصائل عسكرية، خصوصاً "أحرار الشام" التي رفضت أن تتحول المفاوضات إلى غطاء للانتهاكات التي يقوم بها النظام وحلفاؤه على الأرض، دفع موسكو إلى رفع مستوى الضغوط على مستويين: ميدانياً، جرى استئناف قصف حلب بصفة وحشية، بالتوازي مع استئناف محاولات إطباق الحصار عليها من خلال قطع طريق الكاستيلو، وهو طريق الإمداد الوحيد الذي يصل مناطق المعارضة بمعبر باب الهوى على الحدود مع تركيا. وتقوم وحدات حماية الشعب الكردية مدعومة بقوات من النظام وغطاء جوي روسي بمحاولة قطع الطريق، انطلاقاً من حي الشيخ مقصود ذي الغالبية الكردية، والذي يبعد عن الطريق بحدود 4 كم. أمّا سياسياً، فقد عاود الروس الضغط في اتجاه تصنيف كل من حركة أحرار الشام وجيش الإسلام الذي يرأس ممثله وفد المعارضة إلى مفاوضات جنيف، فصائلَ إرهابيةً.
بالتوازي، استأنف الروس محاولاتهم الطعن في شرعية تمثيل الهيئة العليا للمفاوضات المعارضةَ السورية، والدفع في اتجاه كسر احتكارها مقعد المعارضة في المفاوضات، عبر تصنيع جبهة واسعة من المعارضات المحسوبة عليهم تشمل كلاً من جماعة منتدى موسكو وجماعة مؤتمريْ القاهرة والآستانة وجماعة حميميم. لذلك، وعلى الرغم من تعليق وفد الهيئة العليا للمعارضة مشاركته في مفاوضات جنيف، حاول الروس إعطاء الانطباع بأن المفاوضات ماضية في طريقها بغض النظر عن مقاطعة وفد الهيئة العليا للمفاوضات، مع استمرار المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، الاجتماع والتشاور مع وفود "المعارضة" القريبة من موسكو والموجودة في جنيف.
خاتمة
يمثّل القصف الوحشي الذي تتعرّض له حلب محاولة روسية جديدة لفرض الحل السياسي الذي تفضله موسكو، مستفيدة من عدم ممانعة أميركية في ممارسة ضغوط على المعارضة لقبول أي حل يسمح بتركيز الجهد على مواجهة تنظيم الدولة، ويدفع روسيا إلى التعاون، وتحمل عبء أكبر في هذا الشأن. والاحتمال قائم في أن تنجح روسيا في التعاون مع الميليشيات الكردية وقوات من النظام والمليشيات المتحالفة معه في قطع طريق الكاستيلو، وفرض حصار كامل على مناطق حلب التي تسيطر عليها المعارضة. لكنّ هذا لن يؤدي قطعاً إلى سقوط المدينة، كما لن يساعد في اجتياحها، لأنّ عملية الاجتياح سوف تحتاج إلى عشرات الآلاف من المقاتلين للقتال في مناطق سكنية وبين كتل إسمنتية، وهي موارد بشرية لا تتوافر للنظام، حتى لو توقف القتال على كل الجبهات الأخرى، وحشد الأسد كل قواته في اتجاه حلب. فضلاً عن أنّ عملية كهذه سوف تكبّد النظام خسائر بشرية فادحة، لن يكون بمقدوره تحملها ولا تعويضها. ويكفي التذكير بأنّ النظام عجز عن استعادة السيطرة على أحياء سكنية صغيرة في محيط العاصمة دمشق، مثل جوبر وبرزة، على الرغم من القصف الكثيف الذي تعرّضت له هذه الأحياء، والدعم الذي تلقاه النظام من حلفائه الروس والإيرانيين. وهذا يعني أنّ الوحشية التي تُقصف بها حلب، وكذلك تعمّد قتل مظاهر الحياة فيها، لا يعدو كونه محاولة أخرى لمساومة المعارضة على قبول الحل الذي يرغب الروس، وربما الأميركيون أيضاً، في تمريره، ولو كان الثمن تدمير المدينة فوق رؤوس ساكنيها.
هذا القصف هو التطور الميداني الأبرز منذ الهدنة التي تمّ التوصل إليها بين الرئيسين الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين، يوم 22 شباط / فبراير 2016، وبدأ العمل بها بداية من 27 من الشهر نفسه، واستثنيت منها المناطق التي يسيطر عليها كل من تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة. وبما أنّ المناطق التي تتعرّض للقصف حالياً في مدينة حلب تقع خارج سيطرة التنظيمين، فقد بدا مستهجناً استهدافها بهذه الصورة العنيفة، على الرغم من أنه تمّ تسجيل أكثر من ألفي خرق للهدنة، قام بها النظام في مناطق مختلفة من سورية في الأسابيع الثمانية التي أعقبت سريان الاتفاق. صحيح أنّ جيش الفتح يجمع فصائل عديدة منها جبهة النصرة، ولكنّ القصف الذي لم يستثن المستشفيات، لا يميز بينها، والأخطر من ذلك أنه لا يميز بينها وبين السكان المدنيين. وهذا يحيل على مجموعة من الأسئلة، منها: لماذا يتمّ استهداف الأحياء المدنية التي تسيطر عليها فصائل المعارضة السورية في مدينة حلب؟ ولماذا تغطي روسيا الهجوم الوحشي، لا بل وتشارك فيه، في خرقٍ فاضحٍ لاتفاق الهدنة الذي تُعدّ أحد راعييه؟ ولماذا تصرّ موسكو، أيضاً، على استثناء حلب ممّا سمّي اتفاق "هدنة الصمت" الذي جرى التوصل إليه بين الجانبين، الأميركي والروسي، وشمل مناطق في ريفي دمشق واللاذقية، والاستمرار في التعبير عن رفضها الضغط على النظام، لوقف الهجوم على المدينة؟
استئناف محاولات حصار حلب؟
يبدو القصف الذي يتعرّض له الجزء الذي تسيطر عليه المعارضة من المدينة تتمّةً لخطة استكمال حصارها، والتي توقف العمل عليها في شهر شباط/ فبراير الماضي، بسبب اتفاق الهدنة الذي مهّد السبيل لإطلاق الجولة الثانية من مفاوضات جنيف 3 التي بدأت في 29 كانون الثاني/ يناير الماضي. كما يمثّل محاولة لتهجير من تبقوا من السكان، والضغط على المعارضة المسلحة السورية في حلب، لكي تفكك تحالف جيش الفتح، وترضخ لشروط التفاوض الروسية.
خلال الفترة التي أعقبت التوصل إلى قرار مجلس الأمن 2254 في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015، ونص على تنفيذ خارطة الطريق التي تضمّنها اتفاق فيينا لحل الأزمة في سورية، قاد الروس حملةً عسكريةً واسعةً لتحسين مواقع النظام التفاوضية، قبل استئناف محادثات التسوية في جنيف. وبناء عليه، حققت قوات النظام، المدعومة بقوات إيرانية وميليشيات من العراق ولبنان وغيرها، اختراقاتٍ في ريف حلب الشمالي، بعد أن وضعت روسيا ثقلها لكسر حالة الاستعصاء العسكري، وقلب موازين القوى لمصلحة حليفها، مستفيدةً من حالة تسليم أميركي بسياستها في سورية.
ووضع الروس حصار فصائل المعارضة في حلب، وقطع خطوط الإمداد التي تصلها بتركيا، في مقدمة قائمة الأهداف الميدانية التي سعوا إلى تحقيقها. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، أمّنت روسيا غطاءً جوياً لعملية عسكرية واسعة في ريف حلب الشمالي، بدأت أواخر شهر كانون الثاني/ يناير 2016، واستطاعت يوم 3 شباط/ فبراير إغلاق "الكوريدور" الواصل بين مدينة أعزاز على الحدود السورية التركية والقسم الذي تسيطر عليه المعارضة من مدينة حلب.
في الوقت نفسه، باشرت "قوات سوريا الديمقراطية" التي تشكّل وحدات الحماية الكردية عمودها الفقري، تحت غطاء ناري كثيف من الطائرات الروسية، التقدّم من عفرين في اتجاه الشرق، مشددةً الخناق على طريق حلب - أعزاز، على حساب قوى المعارضة السورية التي تواجه داعش. وفي العاشر من شباط/ فبراير، تمكّنت فصائل تطلق على نفسها اسم "جيش الثوار"، تنضوي تحت راية "قوات سوريا الديمقراطية"، من السيطرة على مطار منغ الإستراتيجي الواقع في ريف حلب الشمالي، على طريق حلب – أعزاز، واستمرت في التقدم شمالاً وشرقاً على حساب قوات المعارضة السورية في اتجاه الحدود مع تركيا، فسيطرت على مدينة تل رفعت، أحد أهم معاقل المعارضة السورية شمال حلب، في 15 من الشهر نفسه، قبل أن توقف المدفعية التركية تقدمها في اتجاه مدنية أعزاز.
بعد نجاح قوات النظام في قطع طريق حلب - أعزاز، كانت معظم التوقعات بخصوص الإستراتيجية التي يشرف على تنفيذها الروس تؤشر إلى قيام قوات النظام بعملية عسكرية، انطلاقًا من مدينة خان طومان، جنوب غرب حلب، في اتجاه إدلب، وصولاً إلى معبر باب الهوى، لقطع طريق الإمداد الأخير عن القسم الذي تسيطر عليه المعارضة من مدينة حلب، واستكمال حصارها.
لكنّ الهدنة التي جرى التوصل إليها بين الرئيسين أوباما وبوتين، يوم 22 شباط/ فبراير، أوقفت مؤقتاً خطط استكمال حصار حلب. وقد أظهرت الهدنة، في ذلك الوقت، وجود تفاوتاتٍ في مواقف أطراف جبهة النظام، ففي وقت رأت فيه روسيا أنها أثبتت قدراتها العسكرية من خلال تمكين النظام من تحقيق اختراقاتٍ مهمة ضد المعارضة، وأنه حان الوقت لاستثمار ذلك سياسياً في العلاقة مع واشنطن، فضلاً عن مخاوفها من تصعيد حلفاء المعارضة الذين عبّروا عن رفضهم القبول بهزيمتها، كان النظام وحلفاؤه الإيرانيون الذين استقووا بالتدخل الروسي يصرّون على الاستمرار في الضغط على المعارضة، أملاً في هزيمتها عسكرياً، وذلك قبل أن يقدّموا أنفسهم بصفتهم الطرف الوحيد القادر على مواجهة تنظيم الدولة وهزيمته. من هنا، يمكن فهم تصريحات رئيس النظام السوري عن عزمه استعادة السيطرة على كامل الأراضي التي خسرها للمعارضة، وردّ السفير الروسي في الأمم المتحدة الذي استنكر هذه التصريحات.
إستراتيجية فرض الحل الروسي
بعد أن أثبت روسيا قدراتها العسكرية، ساد اعتقاد أنها تريد، الآن، أن تثبت قدرتها على اجتراح حل سياسي للأزمة السورية. من هنا، قرّرت أن تسير في طريق الحل، إنّما الحل الذي تريده هي، وظهرت بعض ملامحه في الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إلى موسكو في نهاية آذار/ مارس الماضي، ولقائه الرئيس بوتين. ذهب كيري إلى موسكو للاستفادة من الزخم الذي مثّله قرار بوتين سحب جزء من قواته من سورية في الخامس عشر من شهر آذار/ مارس، وجرت ترجمته على نطاق واسع بأنه محاولة روسية للضغط على الأسد لقبول تسوية سياسية، بعدما أدى التدخل الروسي ليس فقط إلى منع إسقاطه عسكرياً، بل أيضاً إلى "تغيير نسبي" في موازين القوى على الأرض لمصلحته.
خلال اللقاء، تلمس الروس ضعف تمسك كيري بمطلب رحيل الأسد في المرحلة الانتقالية، فاقترحوا أن يتمّ الإبقاء على الأسد، وحتى السماح له بالترشح للانتخابات المزمع إجراؤها في نهاية المرحلة الانتقالية، في مقابل تعديل الدستور وتحويل نظام الحكم في سورية من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني، على نحوٍ يصبح فيه الرئيس منتخباً من البرلمان، بدلاً من الشعب ويتمتع بصلاحيات بروتوكولية، في حين تحصل الحكومة الموسعة التي سيجري تشكيلها من النظام والمعارضة ومستقلّين على السلطات الحالية التي يحظى بها رئيس الجمهورية، بما في ذلك سيطرتها على الجيش والأمن. ويبدو أنّ كيري وافق على الطرح الروسي، وعلى أن يكون التركيز في المرحلة المقبلة على تعديل الدستور، أو إعادة كتابته، بدلاً من التركيز على موضوع هيئة الحكم الانتقالي والبحث في مستقبل الأسد، كما تطالب المعارضة، وأن يتمّ الانتهاء من ذلك بحلول شهر آب / أغسطس المقبل.
خلال الجولة الثالثة من المفاوضات غير المباشرة في جنيف، والتي انطلقت منتصف نيسان/ أبريل، حاولت موسكو فرض أولوية تعديل الدستور وتشكيل حكومة موسعة على المعارضة، متبنّيةً وجهة نظر رئيس النظام السوري الذي يرى أنّ الانتقال السياسي يعني الانتقال من دستور إلى دستور آخر. وحاولت موسكو الضغط على المعارضة لقبول هذا المقترح من خلال الضغط عسكرياً، قبل المفاوضات وفي أثنائها، وكذلك استخدام القضايا الإنسانية التي كان يفترض أن تكون خارج إطار العملية التفاوضية، مثل إيصال المساعدات الغذائية إلى المناطق المحاصرة وإطلاق سراح المعتقلات والمعتقلين التي نصت عليها المادتان 12 و13 من القرار الأممي 2254.
لكنّ تمسّك الهيئة العليا للمفاوضات بموقفها الداعي إلى إنشاء هيئة حكم انتقالي، لا يكون الأسد جزءًا منها، ثمّ تعليقها مشاركتها في المفاوضات، استجابة لضغوط فصائل عسكرية، خصوصاً "أحرار الشام" التي رفضت أن تتحول المفاوضات إلى غطاء للانتهاكات التي يقوم بها النظام وحلفاؤه على الأرض، دفع موسكو إلى رفع مستوى الضغوط على مستويين: ميدانياً، جرى استئناف قصف حلب بصفة وحشية، بالتوازي مع استئناف محاولات إطباق الحصار عليها من خلال قطع طريق الكاستيلو، وهو طريق الإمداد الوحيد الذي يصل مناطق المعارضة بمعبر باب الهوى على الحدود مع تركيا. وتقوم وحدات حماية الشعب الكردية مدعومة بقوات من النظام وغطاء جوي روسي بمحاولة قطع الطريق، انطلاقاً من حي الشيخ مقصود ذي الغالبية الكردية، والذي يبعد عن الطريق بحدود 4 كم. أمّا سياسياً، فقد عاود الروس الضغط في اتجاه تصنيف كل من حركة أحرار الشام وجيش الإسلام الذي يرأس ممثله وفد المعارضة إلى مفاوضات جنيف، فصائلَ إرهابيةً.
بالتوازي، استأنف الروس محاولاتهم الطعن في شرعية تمثيل الهيئة العليا للمفاوضات المعارضةَ السورية، والدفع في اتجاه كسر احتكارها مقعد المعارضة في المفاوضات، عبر تصنيع جبهة واسعة من المعارضات المحسوبة عليهم تشمل كلاً من جماعة منتدى موسكو وجماعة مؤتمريْ القاهرة والآستانة وجماعة حميميم. لذلك، وعلى الرغم من تعليق وفد الهيئة العليا للمعارضة مشاركته في مفاوضات جنيف، حاول الروس إعطاء الانطباع بأن المفاوضات ماضية في طريقها بغض النظر عن مقاطعة وفد الهيئة العليا للمفاوضات، مع استمرار المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، الاجتماع والتشاور مع وفود "المعارضة" القريبة من موسكو والموجودة في جنيف.
خاتمة
يمثّل القصف الوحشي الذي تتعرّض له حلب محاولة روسية جديدة لفرض الحل السياسي الذي تفضله موسكو، مستفيدة من عدم ممانعة أميركية في ممارسة ضغوط على المعارضة لقبول أي حل يسمح بتركيز الجهد على مواجهة تنظيم الدولة، ويدفع روسيا إلى التعاون، وتحمل عبء أكبر في هذا الشأن. والاحتمال قائم في أن تنجح روسيا في التعاون مع الميليشيات الكردية وقوات من النظام والمليشيات المتحالفة معه في قطع طريق الكاستيلو، وفرض حصار كامل على مناطق حلب التي تسيطر عليها المعارضة. لكنّ هذا لن يؤدي قطعاً إلى سقوط المدينة، كما لن يساعد في اجتياحها، لأنّ عملية الاجتياح سوف تحتاج إلى عشرات الآلاف من المقاتلين للقتال في مناطق سكنية وبين كتل إسمنتية، وهي موارد بشرية لا تتوافر للنظام، حتى لو توقف القتال على كل الجبهات الأخرى، وحشد الأسد كل قواته في اتجاه حلب. فضلاً عن أنّ عملية كهذه سوف تكبّد النظام خسائر بشرية فادحة، لن يكون بمقدوره تحملها ولا تعويضها. ويكفي التذكير بأنّ النظام عجز عن استعادة السيطرة على أحياء سكنية صغيرة في محيط العاصمة دمشق، مثل جوبر وبرزة، على الرغم من القصف الكثيف الذي تعرّضت له هذه الأحياء، والدعم الذي تلقاه النظام من حلفائه الروس والإيرانيين. وهذا يعني أنّ الوحشية التي تُقصف بها حلب، وكذلك تعمّد قتل مظاهر الحياة فيها، لا يعدو كونه محاولة أخرى لمساومة المعارضة على قبول الحل الذي يرغب الروس، وربما الأميركيون أيضاً، في تمريره، ولو كان الثمن تدمير المدينة فوق رؤوس ساكنيها.