حكواتي: عجائز الأحد

15 نوفمبر 2014
العجائز ينهضون ويتجّهون إلى الأسواق (Getty)
+ الخط -
بينما ينام أغلبية سكان حارتي صباح الأحد، لا أغيّر عاداتي في الاستيقاظ المُبكر، لأكتشف أنني وعجائز الحارة، بطلات الحكاية الأسبوعية.

جارتي العجوز المقيمة في الطابق الثاني، تصادفني في المصعد في أغلب الآحاد. تجرّ عربة التسوق الصغيرة، تلهث خلفي متابعة الثرثرة واقتراحات التسوق: كيلو الجزر هنا أرخص من كارفور، والجرجير... عليكِ تجريب الملفوف!

أحاول التلكؤ في التسوق، حيث ننفصل داخل المحل، أختفي عنها بين سراديب المنتجات المصفوفة حسب أنواعها. أصل إلى صندوق الدفع، لأكتشف أن جارتي تنتظرني قرب الباب، بعد الصندوق، مصرّة على مرافقتي من المخزن حتى البناية، لتتابع ثرثرتها، إلى أن يتحرك بنا المصعد بعد أن ينفتح بابه، فتتابع الكلام وتنسى الوقت، وتقول لي ضاحكة: لا مشكلة، أصل معك حتى الطابق السابع وأعاود النزول.

أضع أغراضي في المطبخ، وأعود للخروج لشراء الخبز. الشارع فارغ تماماً، مثل شارع في وقت أذان المغرب في شهر رمضان. إنّه الأحد، للعجائز فقط الذين يغادرهم النوم، ويخافون من الموت، فينهضون ويتجهون إلى الأسواق.

الشارع ملكي، أتجاوز إشارات المرور الحمراء المضاءة في شوارع فارغة، لا سيارات أنتظر عبورها، ولا سائقين يضايقهم عبوري. الشوارع وسخة، لم يمرّ عمال النظافة اليوم، إنّه الأحد.
الهواء نظيف وطازج، وللروائح نقاؤها، لم تتلوث بعد بدخان السيارات وبسجائر المارة. كل شيء نقي، نقاء الصباح طازج في الحي، لو أنّهم لم يتركوا بقايا الأمس: زجاجات كحول، علب سجائر، محارم، أوراق، علب طعام مستعمل.

المخبز فارغ، ترطم رائحة الخبز الساخن أنفي، كأنما لا أشم هذه الرائحة في أيام الأسبوع، بسبب الزحام، وعدم توقف الباب التلقائي للمخبز من تكرار انفتاحه وانغلاقه كلما دخل زبون أو غادر، فتتبخّر الرائحة. بينما في صباح الأحد، لم ينفتح الباب كثيراً، فظلت رائحة الخبز كثيفة في الداخل.

أثرثر مع خالد لوقت أطول، لا زبائن خلفي أزعجهم ولا أعرقل عمل جاري البائع، فالأحد نهار طويل، والصباح فارغ.

أعود لأجد المصعد بانتظاري، لم يتحرك من مكانه، كأنني الساكنة الوحيدة هنا، بعد جاراتي العجائز اللواتي أنهين مشاريع الأحد خارج البيت.

أتوجه إلى سوق الأحد الذي يُقام ثلاث مرات في الأسبوع، تكون زحمة الأحد مختلفة. كثير من العجائز وبعض الأزواج الذين يتسوقون الخضار الطازجة واللحوم والمنتجات التي لا تتوفر في المحلات. من النادر العثور على الأطفال، فهو يوم تسوق منزلي على الأغلب، وعلى الأغلب زبائنه من النساء، وبالتحديد أكثر من العجائز.

جارتي الأرملة التي فقدت زوجها في العام الفائت، تبتسم لي ونحن نتصادف في المارشيه. سبعينية نحيلة شقراء صارمة، متبرّمة على الدوام، لا تكف عن انتقاد الضجيج وسوء استعمال المصعد، تلتقي بي في المارشيه، فـ "تترَوْحن" برؤيتي وتتنفس الصعداء، حاملة سلة التسوق من القش. ستجد هناك، معي ومع غيري، الفرص للثرثرة وبث شكواها، ولا تنسى التطرق إلى ذكريات الزوج الراحل.

في طريق العودة من المارشيه، يبدأ الضجيج والحراك في الحارة، إنّه نصف النهار بالنسبة لي، بينما يبدأ لدى الجيران وسكان الحي، خاصة الأولاد والأمهات. سأتناول طعام الغداء، بينما تجهز الأمهات وجبة الفطور، بينما أخلد إلى قيلولة الظهيرة، مصغية إلى ضجيج اللعب في الساحة الخلفية للمبنى، حيث تبدأ جاراتي العجائز بالتبرم والشكوى من الضجيج. نحن، عجائز الحي وأنا، نمتلك توقيتاً مختلفاً عن الآخرين، ننهض باكراً وننام باكراً، فأتأكد عند كل صباح، أنني أحمل رأساً عجوزاً بين كتفيّ، أتيقن منه، رأسي العجوز، في صباحات الأحد على الأخص، حيث أتقاسم الطقوس ذاتها، مع عجائز يتصرفن مثلي، ويثقن بي، ويقاسمنني هموماً خاصة، لا يعرفها إلا العجائز.
دلالات
المساهمون