حكواتي: رسالة حبّ إلى بغداد

20 أكتوبر 2014
أطفال عراقيون في العاصمة بغداد (العربي الجديد)
+ الخط -

كنتُ أصوّر مسلسلاً في إحدى القرى الساحلية في سورية عام 2003، عندما جاءت كاميرا الفضائية السورية لتجري لقاءاتٍ مع نجوم العمل، ليتكلموا حول سيناريو المسلسل وأحداثه والحكاية التي تعيشها شخصياته، ولكي يتحدث كلّ منهم عن دوره.
لم أكن أحبّ اللقاءات التلفزيونية ولا الصحفية، وغالباً ما بقيت بعيدة عنها، وكعادتي في مثل هذه الأجواء كنت أُطلقُ في الفراغ المحيط بي مباشرة إحساساً بأنني غير موجودة، وكنت أنجح في هذا معظم الأحيان.
كان فريق التلفزيون يمرّ من جانبي ويصور اللقاءات، من دون أن ينتبه إلى وجودي، أو كنت أنسحب إلى مكان بعيد عن فوضى الكاميرات والكابلات وفوضى كلمات النجوم، ولكن هذه المرة لم أكن أتوقع أن المذيعة سوف تنتبه إلى وجودي في ملاذيَّ الآمن، الذي ألجئ إليه دوماً عندما أريد أن أكون بعيدةً عن الزيف والتصنع والتكلف، وقريبة من الواقع والحقيقة والصمت، حيثُ أشعر بأنني مازلت إنسانة داخل خيمة العامل المكلف بتحضير القهوة والشاي، ومن دون أن تقوم باستشارتي، قالت لي والمصوّر من خلفها:
- صديقتي، علمنا أنك تلعبين دوراً رئيساً في هذا المسلسل؟ حدثينا بداية عن الدور، وبعدها نختم بسؤالٍ عن رأيك في الاجتياح الأميركي لبغداد.

عندما سمعتها تقول "رأيك في الاجتياح".. أسقطت الكلام عن دوري في المسلسل، وقلت:
- وهل ستعرضون حقاً ما سأقول؟ أكدت لي وبكل ثقة أنهم سيفعلون، فأجبت:
- عارٌ على كل الجيوش العربية اليوم، إن لم تصبح على مشارف بغداد، لكي تمنع هذا الاجتياح السافر لسيادة العراق. عار على كل الجيوش العربية اليوم إن لم تصبح على مشارفها لتمنع سقوط عاصمة عربية بحجم بغداد، كلنا يتمنى سقوط الطاغية صدام حسين اليوم وليس غداً، ولكن بيد العراقيين، الذين ناضلوا طويلاً ودفعوا بآلاف الشهداء لإسقاطه، وتآمرت عليهم كل سياسات العالم حتى لا يتمكنوا من ذلك، واليوم تأتي أميركا بحجة البحث عن السلاح النووي، وتقول إنها تريد تخليص العراقيين من طاغية وتريد نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط؟
هذا احتلال وسلب ونهب لمقدرات العراق، ولكن بغطاء الديمقراطية والحرية الكاذب، وغداً سوف نرى كم ستقتل أميركا من الشعب العراقي بحجة الخلاص من دكتاتور دعمت وجوده وباركت وشاركت بقمعه لشعبه. الحرية لا تأتي مع الدبابة الأميركية. 
إذا لم تسارع الجيوش العربية لحماية بغداد، وإن لم ترفض الأنظمة العربية التدخل الأمريكي وخرق أمريكا القانون الدولي بخرقها أمن دولة أخرى، إن وقفت صامتة وهي تشهد سقوط عاصمةٍ عربية بحجم بغداد، سوف تسقط العواصم العربية عاصمةً تلو الأخرى، ولن تقوم لنا قائمة بعد الآن.
رأيت الصدمة على وجه المذيعة والمصور، قرأت في وجهها دون أن تتكلم، أنه لن يتم عرض اللقاء. وبعدها لا بد أنني كنت واحدة من الملايين التي أصابها العار والغضب والشعور بالإهانة ومن الملايين الذين يبكون أمام الشاشات، ونحن نرى تمثال الطاغية يسقط بيد الأميركان ونرى الشعب العراقي يُقتل ويذبح ويغتصب ويشرد، بأبشع السبل على يد الأميركان من جهة، وعلى يد فيلق بدر وجيش المهدي وتنظيم القاعدة لتفتيت وحدة الشعب العراقي، وتحويله إلى طوائف متناحرة، لتهدم بنية العراق التحتية، ويقع بعدها ضحية الفقر والجوع والخطف والقتل والتهجير، أسيراً لحكومة أتت على ظهر الدبابة تنفذ ما تريده أميركا.

منذ ذلك التاريخ الأسود، قررت عدم فتح التلفاز بعد ما تأكدتُ أننا أمة مهزومة وغير قادرة على الفعل، وخاضعة لرغبات أميركا وإسرائيل ومصالحهما في رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، فإن لم تكن هناك من لحظة كلحظة التهديد الأميركي لاجتياح بغداد يوقظ ما مات فينا من إحساس بأن خطراً ما يهدد وجودنا، فمتى يمكن لهذه الأمة أن تستجيب استجابة جماعية لخطر يهدد وجودها؟ ومتى يمكن للحكام العرب أن يطلبوا من شعوبهم الوقوف إلى جانبهم ودعمهم في ردّ الخطر المقبل على وجودنا جميعاً، إن لم يكونوا مجرد سماسرة للغرب يبيعون ويشترون بنا من أجل مكاسبهم الشخصية، ضاربين عرض الحائط بمصير أمة كاملةٍ قاضين بشكلٍ نهائي على مستقبلها؟
منذ ذلك التاريخ اللأسود، قررت عدم فتح التلفاز، لأقطع الاتصال مع الإعلام والقنوات التلفزيونية التي لا تهدف إلا إلى تشتيتنا والتشويش على محاولتنا الوصول إلى المعرفة، التشويش لكي لا تصلك أي معلومة، فكل محطة تتبنى رأياً مشوشاً ويشوش على رأي المحطة الأخرى في صراع معلوماتٍ وأفكارٍ ومصطلحات، وأنت جالسٌ تحلل ما يقولون وتحاول الفهم، فإن اقتربت من الفهم يأتيك برنامجٌ ثانٍ ليشوش على ما وصلت إليه من البرنامج الأول وهكذا، فمن يريد الوصول إلى المعرفة الحقيقية، عليه أن يرحل إلى أبعد من الأنظمة العربية والعالمية كلها، ويتصل مع قناته الطبيعية، ليفهم ذاته من الداخل، وليبدأ بمسح الملفات التي تم تنزيلها في رؤوسنا تنزيلاً للتعريف بالموجودات والمفاهيم، كما يتم تنزيل الملفات فوق سطح المكتب في الحاسوب.
أتاني صوت أختي عبر الهاتف في 14 يناير/ كانون الثاني 2011:
- سقط بن علي، افتحي التلفاز.
فتحت التلفاز وأنا أرتجف خوفاً وفرحاً وحزناً ورعباً وأملاً بأن نستطيع تغيير الدفة لصالح شعوب هزمت وانكسرت بسبب حكامها، أنزل إلى الشارع، حاملة  معي كل هذا.

 

المساهمون